تفعيل المؤسسات.. والتشغيل الاجتماعي

د. سنان علي ديب:

أصبح من شبه المؤكد أن العالم المتأمرك وأدواته العلنية أو المخفية سائرة في اتجاهٍ أعلنت عنه سابقاً ألا وهو الفوضى المدمرة للإنسانية والأوطان، من أجل تحويل البلدان إلى بناء هشّ متمزق، وهو ما يحقق مصالحها التي تظهر مكثفة بالبعد الاقتصادي المتمثل بمنع أي تفوق أو تفرّد إلا بموافقة الولايات المتحدة الأمريكية للبلدان المتقدمة واستمرار التبعية للبلدان التي سعت لزيادة النمو والتنمية بمختلف مجالاتها. وهذه الرؤية تعلن علناً ذهاب زمن العولمة ومؤسساتها وليبراليتها الكاذبة والبرامج الجاهزة، فهي تنعى العولمة لمرحلة قادمة جديدة فيها مصلحة الولايات المتحدة هي المقرّرة لأي شكل من العلاقات. ولم تبُح بهذا الأمر علناً لولا تمهيدها البنيوي لبلدان العالم بتهشيمه وصناعة شخصيات مؤثرة وفاعلة ومرتبطة بها، وتشويه الهويات الوطنية الجامعة، وتعويم مجتمع غرائزي استهلاكي، في ظل تجفيف اقتصادي للمؤسسات وللموارد، وفي ظل التمهيد ببرامج فُرضت قسراً أدت إلى ذوبان الطبقة الوسطى، صمّام أمان البلدان، وركيزة الانطلاق بشتى المجالات الثقافية والسياسية والاقتصادية. وهذا ما سهّل عليها السير قدماً بأمركة العالم، وكان تفريغ المؤسسات المدنية والمنظمات من دورها الأساسي هدفاً وغاية لتمرير السياسات المؤدية حتماً للمشاريع المخطط لها، وهو ما لاحظناه فعلياً خلال أزمتنا باستثناء المؤسسة العسكرية، التي حافظت على الانضباطية، واستطاعت إدارة الأمور بما يحمي الأرض والشرف والعرض. وكثيراً ما قلنا سابقاً نتمنى أن لا نضطر لتكون أساس وركيزة البناء. وبعد الفشل الذريع بالإرهاب المسلح الذي استُجرّ له وقود مصنّع مسبقاً من كل دول العالم، جاءت الأدوار البديلة متمثلة بالإرهاب السياسي والاقتصادي، الذي هُيِّئ له بنيوياً بتدمير الموارد والطاقات لأقصى درجة، والأدوات المكملة لهذا الدور عبر الإغراق والتهريب والسرقة وسلب دور المؤسسات، وهو ما سيشكل بنظرهم ونظر القوى والدول المتصارعة مساراً لفرض أجندات وعلاقات تسلب السيادة والقرار، وهو ما نجده متكرراً بأزمات فرضتها سيرورة الأحداث والنتائج الأزموية الكارثية والإضرار لمسايرة العقلية التي كانت من مداخل الأزمة.

في كل عام بنهاية السنة وبدايتها تتعرض البلاد لموجة أزمات تختلف شدتها بحسب المراد من ورائها وما يعتقد البعض أنه سيفرضها، فتتداخل المسببات بين زيادة الاستهلاك ونقص الموارد وفساد الحيتان وتجار الأزمة لاقتناص أكبر الأموال في مجتمع ما بعد الأزمة الذي لم يُحصَّن ثقافياً وإعلامياً بسلوكيات الأزمة، وفي ظل شريحة لم تعنيها الأزمة ولم تشعر بها حتى الدماء الطاهرة الشريفة لم تلاحظها والجرحى والإعاقات إلا بمتاجرة للتبييض وزيادة الحصص، وهو ما كرّس لضغط شعبي همّه العدالة رغم إدراك نقص الموارد، ولكن بنظرهم سوء التوزيع تقصير ولا علاقة له بقصور الإمكانات. هذه الأجواء بيئة كما يراها مسبّبوها للضغوط، وتحصيل مكاسب فشل الإرهاب وفشلت انتهازية ملء الفراغ بالحصول عليها. وكلما سارت البلاد بفضل عقلائها وجيشها أشواطاً نحو الاحتواء والانطلاقة البناءة، وُضعت العراقيل بما يخدم من يريد أن يبقى بلدنا ساحة تنزف الدماء. هذه الظروف تفرض على صناع القرار المبادرة الشجاعة بالسير قدماً بإصلاح يعطي الحكومة مقومات القرار الوطني المنطلق من مبدأ مصلحة البلد والأولويات، لإعادة البناء والإعمار الهادفة لتفريغ مخرجات التأزيم والتحصين القوي مواجهة لمساعي ومآرب الأعداء، سواء من دواعش الداخل والخارج، ولبّ هذا الصراع بين دولة المؤسسات، ودولة يستطيع من خلالها البعض السيطرة على القرار الانطلاقة المراد السير بها، غايتها الحفاظ على السيادة والكرامة، وأدواتها التمكين الشعبي، ولن تكون إلا بإعادة إحياء المؤسسات المدنية عبر تعيينات هادفة والمحاسبة المستمرة لبرنامج واضح معلن، وهذه العقلية تكون أساساً لإعادة بناء الطبقة الوسطى ومسيرها العدالة الاجتماعية.

الحاجة ملحة لكل الطاقات والإمكانات للاستثمار الأمثل ضمن خطط وبرامج واقعية، توسع المشاركة ولا تستثني أحداً، وتكرس الانضباطية، وتحيط بالفساد، وتكرس سلطة القانون، ومن دون أن تكون للحكومة عبر مؤسساتها الكلمة الفصل، لا يمكن الوصول إلى ذلك.

القرار الوطني السيادي لإعادة الإعمار يقوى كلما اعتمدنا على ذاتنا، بقطاع عام يصلح ولا يستمر بتمويته، وقطاع وطني خاص يمزج بين الاجتماعي والاقتصادي وحاجة الوطن، وتشاركية حقيقية مخرجاتها لصالح الوطن. وهنا لابد من السعي لإعادة الأموال المهربة والمهاجرة ولعودة الكفاءات السورية التي يعتمد عليها لبناء التنمية في أغلب دول العالم.

الانطلاق بمسيرة إصلاحية تعييناتها على الكفاءة والنزاهة ضمن برنامج وطني مجدول، يعتمد معايير للمحاسبة، وبمراقبة سابقة ولاحقة بوصلة للتحصين ضد الأزمات التي يراد منها النيل من السيادة وفرض الأجندات الجاهزة.

العدد 1102 - 03/4/2024