فيلم “حسناء النهار” للويس بونويل.. اكتشاف المجهول

أنس الزواهري:

شاهدت فيلم (حسناء النهار)-1967 ل لويس بونويل للمرة الثانية مع مجموعة من الزملاء، ولم يتسنّ إبداء وجهة نظري في مناقشة الفيلم لقصر الوقت.

مسيرة لويس بونويل السينمائية تنقسم إلى ثلاث مراحل: الحقبة الإسبانية، ثم المكسيكية ، والمرحلة الثالثة والأنضج هي الحقبة السينمائية الفرنسية وابتدأت بفيلم (حسناء النهار) في ستينيات القرن الماضي ، فرنسا في ذلك الوقت كانت النقطة الأولى والمحرك للثورات الطلابية في أوربا، وجذبت الكثير من الفنانين من حولها لبداية مرحلة جديدة لهم، كانت هذه الفترة مرحلة تغير كامل لجميع المفاهيم الاجتماعية والثقافية والفنية إلخ … مرحلة انتقال من نقطة معينة إلى أخرى وهذا يشبه رحلة بطلة الفيلم حسناء النهار سيرافين (كاترين دونوف) في الفيلم والذي خرج إلى الضوء في الزمن ذاته مع هذه الحركات الثورية ، كانت تنتقل من مرحلة معينة إلى مرحلة أخرى مجهولة النهاية ، فالثورات الطلابية خرجت ضد كل المفاهيم القديمة والمظاهر الخارجية للشعوب الأوربية التي كانت تتحكم بها الطبقات البرجوازية كما هي حال سيرافين في الفيلم.

فمنذ المشهد الأول في الفيلم (الحلم الذي يتضمن الجلد والاغتصاب) فهو يشبه الواقع الأوربي تماماً، الزوج الأرستقراطي الآمر الناهي في كل الأمور، الذي يأمر خدمه بجلد زوجته لمعارضته، وهي حال بقية الشعوب الأوربية من الطبقة الدنيا التي تجلد كل يوم في الشوارع. ثم أمر الزوج خدمه باغتصابها ومن هذه النقطة يتبين أن الزوج غير قادر على تلبية رغبات زوجته وهي تماما حال الواقع الخارجي عدم تلبية هذه الطبقة لرغبات الطبقات الدنيا.

سمعت منذ فترة مثل أوربي لا أتذكر صاحبه (فراش سعيد يعني حياة سعيدة) ومن هذه المقولة التي حملت طريقة بناء الفيلم لاحقاً والتي يقول بونويل لهذه الطبقة إذا كنتم غير قادرين على إدارة مجتمعاتكم الصغيرة والتي هي منازلكم كيف ستقدرون على معالجة مشاكل قارة بأكملها؟ فهذا إسقاط تام على فشل البرجوازية في إدارتها المجتمع الأوربي منذ قرون وعجزها التام.

نرى لاحقاً سيرافين المتمردة الخائفة تبدأ رحلتها في البحث عن ذاتها في المجهول من خلال الانخراط في المجتمع الحقيقي والتعرف عليه عن قرب ، العالم الذي صنعه الكادحون والمتعبين حتى وجدت معنى الحب والحياة الحقيقية فيها من خلال السارق مارسيل (بير كيلمانتي) أحد الكادحين المتمردين الذي قام بقتل البرجوازية في النهاية وضحى بنفسه لأجل أن يعيش باقي المهمشين حياتهم مرتاحي البال لا شيء داخلياً أو خارجياً يعذبهم ، وهذه حال سيرافين حقيقة ذاتها وعندما أخبرت زوجها بعد أن أصبح اعمى ومقعد الجسد بشكل تامأنها حققت مرادها في الانتصار على هذه الطبقة في النهاية فهي الأن لم تعد تعاني من تلك الهلوسات والأحلام التي كانت تعيشها.

هذه وجهة نظري للحكاية باختصار شديد، لكن الأهم فيها هي رحلة سيرفين وما وجهته لاكتشاف ذاتها وحقيقة هذا المجتمع فقد اختارت لهذه المهمة المكان الأكثر حقيقة والتي عرى بها بونويل نخبويي المجتمع وهو بيت الدعارة وفيه يتساوى الجميع على حقيتهم، الجميع يخلع زيه المزيف خارجاً ليبقى على حقيقته ومواجهة ذاته المغيبة والتمتع بها للحصول على النشوة التي لا يجدها خارجاً وممارسة ما قد افتقدوه في عالمهم والإبحار في عقلهم الباطني من خلال مواجهة حسناء النهار التي أبدى الجميع آراءهم الحسنة عنها. فجميع الشخصيات التي ارتادت هذا المكان كانت شخصيات ليلية معتمة لم تواجه نور الشمس بتاتا ولهذا أخذت سيرافين هذا اللقب حسناء النهار شعرها أصفر كنور الشمس وبيضاء البشرة كالثلج فكانت مثل عملية الخروج إلى النهار ومواجهة نور الشمس والابتعاد عن الظلام، شخصية الياباني البدين في الفيلم مثال واضح على هذا عندما دخل بيت الدعارة وبيده ذلك الصندوق الصغير والذي يبدو أنه الصندوق الذي يجمع فيه مخاوفه والظلام الداخلي له وقد فتحه لسيرافين ليقول لها إنه يريد أن يهزم ما بداخله وقد حقق هذا مع سيرافين عندما خرج سعيداً ، ومن زاوية أخرى إذا بحثنا عميقاً في دلالات هذه الشخصيات التي كانت تكتشف ذاتها من خلال تحرير النفس بالجنس معظمها شخصيات أدبية من العصور القديمة حاولت التمرد على واقعها من خلال التحرر بالطريقة ذاتها، في ما قدموه من أدب وفنون وحياة عاشوها وهذا يحتاج إلى بحث مطول في كشف أصول بنائها منهم حياة الماركيز دو ساد الذي رمز إليه من خلال الرجل الثري الذي دعا إليه سيرافين ، في ذات الوقت إذا اقتربنا من الحركات الثورية التي نشأت في الستينات إنتقالاً إلى السبعينيات والحركات الثورية في أمريكا وظهور الهيبيز وغيرهم كان التحرر الجنسي هو أساس حل قضاياهم فاعتنقوا طريقة هؤلاء الأدباء .

ومن دلالات نظريتي على التمرد هنا وهي التي لفتت نظري إليها إحدى المتابعات للفيلم أنها أحبت ثيابها في الفيلم: الألوان، ثياب سيرافين في العالم الواقعي مائلة إلى الألوان القاتمة السوداء ألوان ظلامية ألوان السجون والكهوف وفي الحلم حين كانت تُعذب بيضاء وحمراء اللون وهما لونان مشرقان لون السلام ولون الحرية، إضافة إلى لون شعرها الأصفر غير المغطى في الحلم على عكس الواقع عندما تخرج إلى الشارع ثم يعود غير مغطى في بيت الدعارة، هذه الألوان كانت دائماً تلطخ بالسواد مشهد الطين الذي كان يرمى عليها في الحلم والذي هو أيضاً واقع وليس حلماً

ومن نظريات التمرد أيضاً هي لوحات خوان ميرو في منزل سيرافين، خوان ميرو فنان إسباني ومن أهم الفنانين الذين وقعوا على مانفيستو الفن السريالي عندما أتى إلى فرنسا وقد نشأ الفن السريالي كطريقة مخادعة للسلطات التي منعتهم من التعبير عن فنونهم بالطريقة الاعتيادية فلجؤوا إلى هذا الأسلوب خوفاً من الاعتقال والترهيب لأنه فن لم تقدر الحكومات على فهم رموزه وخوان ميرو اتبع هذا الأسلوب ولوحاته في البيت البرجوازي كانت تدل على بداية تمرد له.

ومن النظريات ودلالاتها على عجز البرجوازية مشهد الطاولة في المطعم عندما تنزل سيرافين إلى تحت الغطاء مع صديق زوجها فيعجز الزوج من النظر لما يحدث خشيةً أن يرى حقيقته التي يتمنى أن لا يراها.

مشاهد الكراسي المتحركة للمقعدين التي كان يواجهها الزوج دائما وينظر إليها بتمعن تؤكد حقيقة عجزه حتى انتهى به الأمر كمقعد لا حول له ولا قوة.

العدد 1102 - 03/4/2024