اجتياح العرقية للعالم
وليد شرارة:
حقّق اليمين المتطرف انتصاراً جديداً على الصعيد العالمي مع فوز مرشحه جايير بولسنارو في الانتخابات الرئاسية البرازيلية. البرازيل، على رغم وجوده في الجنوب، نموذج مصغّر عن العالم المعاصر وتناقضاته وانقساماته. في بداية تسعينيات القرن الماضي، عندما كان الترويج الإيديولوجي للعولمة ووعودها في أوجه، جزم بعض أبواقها أنها ستؤدي إلى أمركة العالم وإعادة تشكيله على صورة الولايات المتحدة. رد نقادها ومعارضوها أنها ستعيد تشكيله بلا ريب، لكن على صورة البرازيل آنذاك (قبل وصول حزب العمال إلى السلطة): جيوب من الثراء الفاحش ومحيط من الفقر، غارق في العنف والبربرية الناجمان عن تفكّك شبكات التضامن الاجتماعي التقليدية وعدم استبدالها بسياسات اجتماعية من قبل الدولة. البرازيل من أول البلدان التي مورست فيها أنماط متنوعة من التطهير الاجتماعي/ العرقي، قبل يوغوسلافيا السابقة ولو على نطاق أضيق، من قبل فرق موت يمينية متطرفة عاملة لحساب الطبقات الحاكمة، ذات الأصول الأوربية في غالبها وتسمى محلياً (العائلات_ familias). فمن سمات هذا البلد أيضاً، التي تسمح باعتباره إلى حد ما نموذجاً مصغراً عن العالم، هو شبه التطابق بين جغرافيتي الانقسام الاجتماعي والعرقي. أفشلت محاولات حزب العمال، الشديدة الاعتدال، للإصلاح الاقتصادي والاجتماعي وتمت الإطاحة به بانقلاب مكشوف مدعوم من العائلات، ومن الولايات المتحدة. ومن ثم، تكفلت (العصبية البيضاء) التي تجتاح الغرب وبعض امتداداته الاجتماعية والثقافية في الجنوب، في البرازيل والأرجنتين والتشيلي وجنوب إفريقيا مثلاً، بإيصال بولسنارو إلى السلطة كما أوصلت دونالد ترامب في أمريكا وفكتور أوربان في المجر وجيزيب كونت وماتيو سالفيني في إيطاليا. ولا شك في أن المتغيرات الدولية الراهنة، ومن أبرزها صعود الدور السياسي للدول والشعوب والجماعات غير الغربية، وتراجع الهيمنة الغربية، ستزيد من استنفار هذه العصبية البيضاء، أو العرقية الجديدة، ومن محاولاتها مواجهة هذه المتغيرات داخل بلدانها وعلى الصعيد الدولي.
عرقية بلا قناع
العرقية، أو العنصرية، كإيديولوجيا كانت إحدى المرتكزات الفكرية والثقافية الرئيسية للغزو الغربي للعالم. ارتبط تبلورها تاريخياً بتطوّر العلوم والمعارف وبالسعي إلى إيجاد أسس (علمية) لفرضية انقسام البشر إلى (أعراق)، ضمن تراتبية هرمية بينها يحتل فيها العرق الأبيض، بفضل تفوقه الذهني المزعوم، أعلى مرتبة، مما يؤهله للسيطرة على الآخرين وبشكل خاص، على مواردهم. أدّت ثورات التحرر الوطني ضد الاستعمار والنضال ضد التمييز العرقي داخل دول الغرب وانتفاء الأسس (العلمية)، نتيجة تطور العلوم، لنظرية الأعراق، إلى تخلّي أنصارها عنها واستبدالها بالخطاب الثقافوي. أقر هؤلاء مكرهين بعدم وجود أعراق، لكنهم أصروا على وجود ثقافات متمايزة جوهرياً عن بعضها البعض، أي بكلام آخر غير متساوية، وغير قادرة على التعايش في بلد واحد وحتى على الصعيد العالمي. أحد أبرز رموزهم هو صامويل هانتغتون، صاحب نظرية صراع الحضارات الشهيرة. لكن ما لا يذكره الكثيرون هو أن هانتغتون نفسه، قبل عشرين سنة من كتابة مقاله الشهير في مجلة (فورين آفيرز)، ساهم عام 1974 في إعداد دراسة بعنوان (أزمة الديموقراطية) لحساب (اللجنة الثلاثية_ La commission Trilaterale)، وهي منتدى دولي ضم مسؤولين سياسيين وشركات كبرى وخبراء من الولايات المتحدة وأوربا واليابان، يحاول فيها شرح خلفيات الأزمة المذكورة وحلولها الممكنة. اعتبر هانتغتون أن السبب الرئيسي للأزمة هو ما يسميه (ثورة التطلعات الصاعدة)، أي ميل القطاعات الاجتماعية المهمشة تقليدياً للمشاركة السياسية دفاعاً عن حقوقها الأساسية والمطالبة بالمزيد من الحقوق. وهو رأى أن هذه القطاعات، بحكم مستواها التعليمي والفكري، وتغليبها للعواطف والغرائز على التحليل العقلاني البارد، ستصوت حتماً لمصلحة مرشحين شعبويين معادين للديموقراطية والرأسمالية. واستنتج في آخر الدراسة، فيما يشبه التوصية، أن قدرة النظام الديموقراطي على العمل في شكل طبيعي مرتبطة بقدر من اللامبالاة السياسية (Apathie) من قبل هذه القطاعات التي قد تؤدي مشاركتها الكثيفة في الحياة السياسية إلى شلّه أو حتى تهديد بقائه. لم يشر هانتغتون بوضوح في سياق اتسم بتصاعد النضال ضد العنصرية إلى الهوية (العرقية) للقطاعات المذكورة، لكن القاصي والداني عرف يومها أن المقصود كان نضال الأفارقة الأمريكيين ضد التمييز ومن أجل المساواة الفعلية، أوسع وأعمق حركة احتجاجية عرفتها أمريكا في تلك الفترة. أحس هانتغتون، وهو أحد الممثلين الأكثر ثقافة وتهذيباً للعصبية البيضاء مقارنة بترامب وبنس وبانون، بتهديد وجودي لمجرد تعبير (الملونين) عن مطالبهم في الحيّز العام، لكنه لم يعبّر عن مجمل قناعاته إلا بعد عشرين عاماً، عندما اعتقد أن انهيار الاتحاد السوفياتي وما رافقه من تراجع فكري وسياسي لليسار هو فرصة للهجوم الفكري المضاد في سياق ما أطلق عليه يومها في الولايات المتحدة الثورة المحافظة. التحولات الكبرى التي يشهدها العالم المعاصر، أكان على مستوى موازين القوى بين القوى الغربية وتلك غير الغربية وانعكاساتها على نفوذ الغرب السياسي وعلى أوضاعه الاقتصادية، أو داخل البلدان الغربية والبلدان التي تضم جماعات وازنة من أصول غربية، حيث أصبح (لغير البيض) من الملونين وجود متزايد في الحيز العام وفي الحياة السياسية والاقتصادية وحركات تناضل ضد سياسات التمييز والتنكيل، عززت الشعور بضمور النفوذ والسيطرة وما يترتب عليهما من تهديد للامتيازات الهائلة التي تمتعت بها، ولو في شكل غير متساوٍ، نخبٌ وكتل اجتماعية معتبرة في الغرب. العصبية البيضاء الصاعدة، النمط الجديد والفجّ للعرقية، هي رد فعل دفاعي عن الهيمنة والامتيازات المرتبطة بها.
خريطة التصويت في البرازيل تكشف بوضوح الطبيعة العميقة للانقسام السياسي الذي تشهده. لقد صوّتت الولايات الأغنى، التي تقطنها غالبية من السكان ذوي الأصول الأوربية، في غرب البلاد وجنوبها الشرقي لمصلحة بولسنارو، بينما صوّت الشمال الشرقي الفقير، الذي تقطنه غالبية من السكان ذوي الأصول الهندية والإفريقية والمختلطة، لمصلحة فرناندو حداد (مرشّح حزب العمال). لم تسامح (العائلات) هذا الحزب على سعيه لإصلاح اقتصادي واجتماعي جزئي، ولا على إدخاله القطاعات المهمشة إلى حلبة السياسة، وهي وجدت في السياق الدولي الحالي وفورة العرقية الجديدة مناسبة للانقضاض على السلطة ومحاولة إعادة الزمن إلى الوراء، إلى ما يمثل بالنسبة لها حقبتها الذهبية، عندما كانت حفنة من الأوربيين تملك الأرض ومن عليها في بلد قارة كالبرازيل.
(الأخبار)