“وداعاً أيها السلاح”.. أرنست همنغواي

عماد يحيى عبيد:

في الحرب العالمية الأولى، تطوع الكتاب الأمريكي (أرنست همنغواي) مع الصليب الأحمر الإيطالي، وأصيب، وأثناء استشفائه في أحد المشافي العسكرية، رعته ممرضة إيطالية تدعى (أغنيس فون كوارووسكي) فأحبها وأحبته، وطلب يدها للزواج، فلم تقبل به بعد أن عاد إلى أمريكا، بينما تواصلت الرسائل المتبادلة بينهما ونشرت على شكل مذكرات لـ(أغنيس).

من وحي تلك التجربة كتب (همنغواي) رائعته (وداعاً أيها السلاح) التي وصفها النقاد بأنها أفضل ما كتبه، وقد تلاعب الكاتب بالوقائع وسيرورتها مقصياً نفسه عن مجريات الأحداث، مؤلفاً حكاية سردية شيقة، تعج بالأحداث وتغرق بالتفاصيل، تحاكي المشاعر الوجدانية للإنسان حين تتناوحه ريح الحرب والموت من جهة، وحب البقاء والحياة من جهة أخرى، متنقلاً بين ساحات القتال وكواليسها الخلفية والشارع والمقهى ومخدع الحب، فتكتمل الصورة منسجمة مع الحدث، مضيفة حالة من الصدق والشفافية على أجواء الرواية، لكن من يعرف تجربة الكاتب والأحداث التي مرت به في تلك الفترة، سيدرك أنه سرب جزءاً من تلك التجربة، وبنى على أساسها معمار روايته التي لاقت صدى ورواجاً غير خافٍ على القراء وسدنة الأدب.

بطل الرواية شاب أمريكي متطوع مع الحملة الإيطالية في الحرب العالمية الأولى في حربها مع النمسا، يدعى (فريدريك هنري) عمل في المشفى الإيطالي الميداني، وخدم على الخطوط الأمامية للجبهة، وقد تعرف في تلك الأثناء على الممرضة المتطوعة الإنكليزية (كاترين باركلي) التي تعمل في المشفى الإنكليزي في المدينة نفسها، وفي بداية لقاءاتهما تسأله (كاترين) ما إن كان يحبها؟ فيعترف بحبه لها، ولكنه يصرح في قرارة نفسه إنه لم يكن يحبها، وإنما كان يبتغي تجزية وقته معها في مطارحات غرامية، لكن (كاترين) تشك في اعترافه ذاك، وتشعر بعدم صدقية هواه، بيد أن تطور العلاقة بينهما ما لبث أن أثمر عن حب صريح، فازدادت حميمية العلاقة حتى وصلت إلى الهيام.

أثناء وجود (فريدريك) على خط الجبهة، تسقط قذيفة قريبة وتقتل أحد السائقين التابعين للفريق الذي تحت إمرته، ويصاب هو إصابة قوية في رجله تزيح ركبته من مكانها، فينقل إلى المشفى الأمريكي في (ميلانو) ويصادف انتقال حبيبته (كاترين) إلى المشفى نفسه، يعالج هناك بعد أن أجريت له عملية جراحية صعبة تكللت بالنجاح، ومُنح وساماً مكافأة على شجاعته وقيامه بالواجب، وخلال إقامته يلتقي بحبيبته يومياً، ويعيشان علاقة غرامية جسدية أسفرت عن طفل استقر في رحمها، وبعد تعافيه يعود إلى الجبهة، ويفاجأ بهجوم نمساوي، يتقهقر أمامه الجيش الإيطالي وينسحب، وكان (فريدريك) مع فريقه من جملة المنسحبين، فتتعطل سياراتهم غرقاً بالوحل، ويتابع الانسحاب، وبعد عبور أحد الجسور يواجههم البوليس الحربي الإيطالي ويستوقفهم ليقوم بعملية إعدام للضباط المتراجعين، وقبل أن يأتي الدور عليه، يرمي بنفسه بالنهر ويغوص ثم يجري مع التيار سابحاً في مغامرة رهيبة، يصل إلى اليابسة ويتعلق بأحد القطارات الذاهبة إلى (ميلانو) ثم ينسل منه إلى المشفى الذي تعمل فيه كاترين، فيجدها قد غادرت إلى مدينة (أسترسا) فيلحق بها ويلتقيها ويعيش معها أياماً في أحد الفنادق، وذات ليلة يسر له صاحب الفندق أن الشرطة الإيطالية تسأل عنه لتعتقله، فيهرب ليلاً مع حبيبته بمساعدة صاحب الفندق الذي أعطاه زورقاً نقله عبر البحيرة، وأقاما معاً في بلدة (مونتكس) السويسرية، وعاشا أياماً جميلة حافلة بالمباهج تصاعدت معها وتيرة الحب والتناغم بالعواطف، إلى أن جاء موعد الولادة، فانتقلا إلى (لوزان) وفي المشفى تتعسر ولادة (كاترين) وتجرى لها عملية قيصرية، فيخرج المولود ميتاً، وبعد ساعات تصاب بنزيف قوي تموت على إثره وينتهي به الأمر وحيداً مهيض الجناح.

في سيرورة السرد تجري الأحداث اليومية من خلال الراوي المشارك بطل الرواية (فريدريك) وخلال تلك الأحداث تدور الكثير من الحوارات بين أشخاص الرواية الهامشيين والبطل، ونجد أن الجميع متفقون على الاستياء من هذه الحرب والكره لها والأمل بالخلاص منها وانتهائها، تلك الحرب التي حصدت مئات الآلاف من القتلى والمصابين، فضلاً عن الدمار المادي والمعنوي الذي حل على البلاد والعباد، حتى البطل نفسه ينعي تلك الحرب ويندم لمشاركته فيها، مؤكداً أن الإنسان لم يخلق ليقهر، لذلك نراه قد حسم أمره بعد انسحابه من المعركة ووقوعه تحت رحمة البوليس الحربي ومن ثم الشرطة التي تنوي اعتقاله، فقرر الهرب مودعاً الحرب والسلاح.

أسند الكاتب لبطل الرواية (فريدريك) مهمة الراوي بضمير المتكلم، ودارت الأحداث بجملتها من خلال سرده الصاعد مع سيرورة الوقائع، وقد تميز العمل بالإسهاب في الوصف والاعتماد على التصوير لنقل القارئ إلى داخل الفضاء الروائي، سيما أن المكان حاضر في كل مفاصل الرواية، ويعتبر جزءاً رئيسياً من المعمار الروائي، كما اتكل الكاتب على الحوار الخارجي (الديالوج) ليبث في الرواية حيوية الحياة وأنسنة الفكرة، تاركاً للبطل أن يملأ فراغات السرد بمناجاته الداخلية والمنولوجات التي تتابعت مضطردة مع نمو الأحداث، مركزاً على شخصية البطل ودورها الرئيسي في صناعة الأحداث، وقد يخال للقارئ أن البطولة فردية محضة، بيد أن تقنية الكاتب وقدرته تجاوزت هذه الرؤية لتجعل من معظم الشخوص أبطالاً بغض النظر عن حجم أدوارهم وحضورهم في سياق السرد، فجميعهم رافضون لفكرة الحرب، معطاؤون، ويمتازون بالطيبة والمحبة والتطلع إلى المستقبل، متمسكون بالأمل رغم هيمنة الحرب والدمار، ولعل قيمة الرواية الفنية تأتي من بساطة السرد وحيويته والتدقيق في المفاصل الصغيرة، وسيلمح القارئ فيها جزئيات ساذجة، لكن تراكمها وتتابعها سيجعلها من المداميك الارتكازية للحبكة الشاملة للرواية، فلا ضياع في فصول السرد ولا غموض في الأحداث المتتالية ضمن منطق روائي كلاسيكي ممتع وجميل.

اسم الرواية مأخوذ من قصيدة للكاتب المسرحي الإنكليزي (جورج بيليه) المولود في القرن السادس عشر، وجوهر فكرتها ينسجم مع فكرة تلك القصيدة، فالسلاح أداة الحرب، والحرب عمل منبوذ ومرفوض كطريقة لفرض شروط الحياة، وكأن الكاتب أراد أن يعبر من خلال هذه الرواية عن بشاعة الحروب، وعدائها للإنسانية، فضلاً عن توافق الناس على استنكارها والتذمر منها، وكل ما يشاع عن بطولات الحروب وإنجازاتها، ما هي إلا نزوات الساسة وأحلام كبار العسكر، فالإنسان خُلق ليحيا حراً كريماً، ولم يخلق ليقتل أو يقهر.

نشرت الرواية أول مرة عام 1929 ولاقت هتافاً حاراً لدى النقاط والقراء، وصنفت من أفضل الروايات العالمية، كما تم تجسيدها في أكثر من فيلم سينمائي عالمي، وقدمت على خشبة المسرح من خلال نصين مسرحيين في قترتين متباعدتين، ووظفت في مسلسل تلفزيوني شهير، لكن رواجها ككتاب أدبي فاق شهرتها الدرامية، مما يدل على مدى وقعها لدى القراء وارباب الأدب والثقافة.

العدد 1102 - 03/4/2024