الماركسية- اللينينية في أربعة صناديق من الكرتون
عبد الرزاق دحنون:
كُنتَ ماركسياً وتبت- سامحكَ الله- فهل أنت بالضرورة على باطل؟ وهل أنا الماركسي- ما أزال- على حق؟ هل أحدنا محقّ لأن صور كارل ماركس ولينين ما زالت على جدار غرفته، والآخر مخطئ لأنه أزالها عن جدار غرفته؟ أو هل كلانا محقّ وكلانا مخطئ؟ لا أنا ولا أنت نعرف ذلك ولا سوانا. من ينبغي أن نسأل ليعطي القرار الصحيح؟ قد تسأل أحداً يتفق معك، ولكن مادام يتفق معك كيف يمكنه صوغ القرار؟ وقد تسأل أحداً يتفق معي ولكن مادام يتفق معي كيف يمكنه صوغ القرار؟
هذه التساؤلات للفيلسوف الصيني (تسوانغ تسي) ابن القرن الرابع قبل ميلاد السيد المسيح، خطرت لي وأنا أستلم أربعة صناديق كرتون كبيرة، ثقيلة، محكمة الإغلاق، بذلت جهدي في نقلها من سيارة رفيقي الشيوعي المتوقفة على زاوية كنيسة الروم الأرثوذكس في مدخل زقاق المسيحيين، إلى مكتبتي في رابع دكاكين ذلك الزقاق. هذه الصناديق هدية من رفيق هجر الشيوعية_ أصلحه الله_ فتذكّرني. شكراً له على كل حال. وحقيقة أن يكون المرء شيوعياً لا يتعارض مع كونه مسيحياً مؤمناً يُصلّي في الكنيسة، وذلك لا يتعارض مع كونه ينشط في حزب شيوعي، ولا يمنعه من أن يكون صديقاً لعدد كبير من المسلمين، يدخل بيوتهم ويأكل خبزهم. ولعلها نادرة تستحق الذكر أن مصطفى جقمور، من أهل مدينة إدلب في الشمال السوري، هو أحد رفاقنا في الحزب الشيوعي السوري ظلَّ لأكثر من ستين عاماً شيوعياً مؤذّناً، يؤذّن في الناس، ويُصلّي في المسجد. حالة نادرة لا شك في ذلك، ولكن أي شخص هو عضو في جماعات مختلفة متعددة، ومن دون أن يكون ذلك تناقضاً بأي شكل من الأشكال، وكلٌّ من هذه الهويات الجمعية التي ينتمي إليها هذا الفرد تعطيه هوية اجتماعية تجعله شخصاً مهماً بالفعل.
فتحتُ ختم الصناديق فبلغ عدد كُتبها أزيد من مئتين. رحتُ أتصفح الكتب على مهل. الوقت أوفر ما عندنا، عكس باقي الأشياء في المدينة، حيث لا غذاء ولا ماء ولا كهرباء ولا هواء ولا دواء، أعان الله الفقراء، لا حول ولا قوة إلا بالله. والوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك. وجدت المنّ والسلوى في القراءة. وتذكرتُ كم كان المتنبي حكيماً في قوله:
أعزُّ مكانٍ في الدُّنى سرجُ سابحٍ
وخيرُ جليسٍ في الزمان كتابُ
السرج السابح بعيد المنال، يا أبا الطيب، ولكنك أنتَ هُنا في حضرة كُتب أئمة الماركسية_ اللينينية وشيوخها ومجاهديها.
وجدتُ كنزاً شيوعياً مهماً، أول هذا الكنز كُتيِّب (مبادئ الشيوعية) ألّفه فريدريك أنجلز في تشرين الثاني (نوفمبر) عام1847 كصيغة أولى لتعريف ما هي الشيوعية. وهي صيغة جميلة على كل حال في أسئلة وأجوبة. يطرح أنجلز السؤال ثمَّ يُجيب عنه. عرض هذه الصيغة على رفيق دربه كارل ماركس، وكانت أول وثيقة واضحة المعالم عن المفهوم الجديد للعالم الذي تبلور في عقل الشابّين. تمَّتْ صياغة شكل البيان أخيراً ونُشر تحت عنوان (بيان الحزب الشيوعي) بصيغته المعروفة لأول مرة في طبعة خاصة باللغة الألمانية في لندن في شهر شباط (فبراير) عام 1848.كان ماركس في الثلاثين، وأنجلز في الثامنة والعشرين من العمر. ويقول الرفيق خالد بكداش في كتاب الصحفي السوري عماد ندَّاف (خالد بكداش يتحدث) الصادر في طبعته الأولى في دمشق عام 1993: قمتُ بترجمة (بيان الحزب الشيوعي) من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية عام 1933 على ما أذكر. يقول البيان في إحدى فقراته: إن الشيوعيين قد آن لهم أن يعرضوا أمام العالم بأسره مفهوماتهم وأهدافهم وميولهم، ويدحضوا خرافة شبح الشيوعية ببيان من الحزب نفسه.
وجدتُ كتاباً فخماً وضخماً أكثر من 600 صفحة من مراسلات كارل ماركس وفريدريك أنجلز، ترجمه إلى العربية من نسخة إنكليزية الدكتور فؤاد أيوب، صادر في طبعته الأولى في 3000 نسخة عام 1981. ما أهمية هذه المراسلات اليوم؟ قيمة المراسلات عظيمة كما قال لينين، فلا يقف ماركس وأنجلز هُنا أمام القارئ بصورة جريئة فحسب، بقامتيهما المليئتين، بل ينكشف محتوى الماركسية النظري الغني جداً بأعظم الوضوح. تجدُ في هذه المراسلات جدلاً حيَّاً في الفكر الذي يُحاول شقَّ دربه الخاص، والذي سيُصبح بعد قليل علماً أحمر يخفق في الريح عبر أرجاء الكرة الأرضيَّة.
وكان لطيفاً أن أجد كتاب (مذكرات عن ماركس وأنجلز) طبعة دار التقدم في موسكو عام 1976، وهذه طبعة نادرة مصورة، فيما أحسب. وفيها تجد ما قالته جيني فون فستالين زوجة كارل ماركس عن تلك الأيام الصعبة في لندن، حيث لا مال ولا عمل. وليس العمل سهلاً في حالة البؤس، وقد أصبحت أسرة ماركس المؤلفة من ستة أفراد أكثر بروليتارية في طابعها إبان تلك السنوات في لندن. لم يكن ماركس يستطيع الخروج في بعض الأحيان لأن ملابسه موجودة في محل الرهونات. حتى الورق الذي يكتب عليه لم يكن موجوداً، كذلك ضرورات الحياة لأسرته. وخلال الفترة التي عاشها في (دين ستريت) ولدت له طفلة هي فرانشيسكا، ماتت بعد سنة من الفاقة. وقد وصفت زوجة ماركس هذه المأساة في رسالة إلى صديقة في أمريكا تقول فيها: أطفالنا الثلاثة يرقدون على الأرض ونحن جميعاً نبكي الملاك الصغير الذي كان جسده بلا حياة والموجود في الغرفة المجاورة. ولقد حدثت وفاة طفلتنا ونحن في حالة عوز شديد، وأصدقاؤنا الألمان عجزوا عندئذ عن مساعدتنا. وهرولت_ والأسى في قلبي_ إلى مهاجر فرنسي يسكن ليس بعيداً عنا، واعتاد أن يحضر لزيارتنا، ورجوته أن يُساعدنا للضرورة المُلحَّة. فأعطاني في الحال جُنيهين بتعاطف أخوي عميق. وقد استخدمت هذا المال في شراء كفن ترقد فيه طفلتي الآن في سلام.
عادت بي هذه الكتب إلى تلك الأيام التي كانت تفوح فيها رائحة القرنفل الأحمر وتُعطِّر فقراء العالم، وإلى ظلِّ (جذور السنديانة الحمراء) لرفيقنا الغالي اللبناني محمد دكروب. بلا شك كانت أياماً لا تُنسى لعبت دور النشر في الاتحاد السوفياتي دار (التقدم) و(رادوغا) خاصة دوراً بارزاً ومهماً في نشر الفكر الماركسي_ اللينيني. صدرت آلاف الكتب بهذا الشأن مترجمة إلى اللغة العربية، ولعل أشهرها مؤلفات لينين في عشرة أجزاء بغلافها الأزرق الغامق، وكتاب (رأس المال)، ومختارات من مؤلفات ماركس_ أنجلز في أربعة أجزاء بلونها البني المحروق كالقهوة العربية، وقد ضمَّت هذه المختارات بين دفتيها مؤلفات فريدريك أنجلز (أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة)، و(لودفيغ فورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية)، وفيها كتاب كارل ماركس البديع (الثامن عشر من برومير لويس بونابرت). ومن الكتب المميزة التي سررتُ بها كتاب الصحفي الأمريكي الشيوعي جون ريد (عشرة أيام هزت العالم). يا لتلك الأيام العظيمة التي هزّت العالم، عندما حاول بلاشفة روسيا بقيادة حكيمهم لينين قلب الدنيا لصالح الفقراء وبناء أول دولة اشتراكية في التاريخ!