في ظل غياب المحاسبة… هل يثق المواطن بالحكومة؟!
سليمان أمين:
مليارات صُرفت ومازالت تُصرف، ومشاريع شُيِّدت ومازالت تُشَيَّد، إلا أن العلة، وإن كان جزء منها في كيفية الصرف وكيفية التشييد، فالجزء الأكبر والقاصم منها يكمن في بذرة الفساد، هذا الكائن الذي يشبه فعل مرض السكر القاتل الخفي في الجسم وفي معظم مشاريعنا العامة والخاصة، فنجده في مدرسة يهمل معلمها تلاميذه كما أهمله وزيره، وفي جامعة لا يخلص أساتذتها لطلابهم، وفي وزارة وزير أوحد وإدارة موظف واحد، أو شلّته، يبددون فيها آمال الشعب وثرواته. بعض الفساد كالذنب لا يراه أحد، لكن إذا استفتى المرء قلبه أبصره واضحاً كالشمس في وضح النهار. المأساة ليست في انتشار الفساد فحسب، بل في التعوّد عليه والسكوت عنه، برغم أن الساكت عنه شيطان أخرس، وبرغم إيجاد هيئات ومؤسسات لمقاومته، وتفريغ رجال للقضاء عليه.
مشكلة الفساد الحقيقية هي وجود هذه الهيئة المسؤولة عن مكافحته، فهي من الهشاشة أن جلّ مفتشيها موظفون مخلصون لدى الدوائر والمؤسسات والمديريات المحالة إلى التحقيق. وقد بقي كثير من نتائج التحقيقات التي فتحتها الهيئة المركزية ضد فاسدين في الإدارات العامة وأصحاب نفوذ، بقي طي الكتمان وحبيس الأدراج، وخاصة في القطاع الحكومي والمصارف العامة.
لذا فنحن أحوج ما نكون إلى مؤسسات محاسبة بقوانين ملزمة تطبق علناً وتضع حداً لسرقة حقوق شعب في حياة تليق به ويستحقها، فمستويات الهدر الناجمة عن الفساد في سورية، تعتبر من أعلى المستويات عالمياً، كما تعتبر مستويات الفساد الذي تغلغل في المفاصل الاقتصادية والحكومية العامة من أهم العوامل التي تؤدي إلى رفع مستويات هدر المال العام، في وقت تكافح فيه دول العالم من أجل الحد من هذه المستويات عبر ضبط الإنفاق والميزانيات العامة، والعمل على ضبط مستويات الفساد الإداري في الأجهزة الرسمية بشكل خاص.
والسؤال الملحّ الآن هو: كيف ستبنى الثقة بين الحكومة والمواطن في ظل غياب المحاسبة؟ وما معنى وضع دستور جديد بمساعدة الحلفاء والمبعوثين الدوليين، إن لم يُحاكَم الفاسدون؟ وأي مستقبل تعيس وأفق مسدود ينتظرنا في ظل أجواء أصبح فيها الفساد يتطاول على قوانين الدولة، كما أضحى النفوذ الشخصي لبعض المتنفذين أقوى من كل الأعراف والقوانين؟
لقد اشتُهرت سورية عبر تاريخها الطويل ببنائها للقلاع الضخمة الحصينة، وما يمكن إحصاؤه من هذه القلاع هو قرابة ثمانين قلعة تنتشر في جل المساحة السورية وتعود إلى فترات وعصور مختلفة، لكن ما يجمع بين هذه القلاع هو غرض بنائها والعبرة منه. فكما هو معروف تعرّضت سورية وتتعرّض بحكم موقعها الحضاري ومكانتها لدى الإنسانية جمعاء للعديد من محاولات الغزو الخارجي، لذا ارتأى القائمون على أمورها منذ القدم تحصين جبهتها الداخلية، وكان من ضمن خطط هذا التحصين بناء القلاع والحصون التي كان بعضها مدينة ضمن مدينة تحتوي على أهم دفاعات الدولة، وكان يصعب على الأعداء اختراقها إلا بالتدمير الكامل والنهائي، وهذا ما لم يُسجَّل في التاريخ السوري إلا نادراً.
واليوم، بعد سبع سنوات أزمة حرب، هل يمكن أن نسمح لهذه السنوات بالتمدّد والتمديد نتيجة السياسات الخاطئة لبعض المسؤولين؟ ألا إن بعض أهم عوامل الصمود متوفرة لدينا داخلياً لولا بعض ما يُفرض علينا قسراً؟ هذا الكلام لسائلٍ أن يسأل ومجيبٍ أن يجيب، فكم من خبير وطني أكّد أن سياسة (الدولار) أودت ب(الليرة)، وأن إمكانية تحصين اقتصادنا متوفرة رغم الظروف القاسية؟ ومع ذلك نرى الرياح جرت وتجري بما لا تشتهي سفن المنطق والقانون ورغبة المواطنين. فرص عمل لا يلتحق بها أصحابها الحقيقيون بسبب عدم إسناد تلك الفرص لهم كما يستحقون، أو بسبب عدم خلق تلك الفرص أصلاً نتيجة فوضى إدارية وترهّل يكاد يقضي على كل الجسد الإداري بسبب تعنُّت أعضاء فيه أو استهتارهم.
وزير يتصدى بأنواع الكلام والقرارات لمنتقدي نهجه، ولا يتصدى ولو بكلمة لأشخاص يستأثرون بجزء من الوطن ليكون لهم ولمشغّليهم وطن أحلام منزوع من أصله ومسلوخ عن جغرافيته وتاريخه كما خطّط ويخطط الأعداء! ألم يكن في دروج أولي الأمر ما يكفي ليثبت خروج العديد من المسؤولين عن القانون قبل خروجهم (الموفّق) من البلاد؟! موظفون غادروا وزاراتهم ودوائرهم في قلب الأزمة بتأشيرات نظامية رغم أن بعضهم الكثير من حَمَلَة المخالفات، ودوائر علمية خلت من كوادرها، وأخرى قضت على تلك الكوادر بحصارات إدارية جائرة. مؤسسات استعصت فيها الحلول لمشاكلها رغم أن مديريها يسيئون إلى الوطن علناً كل ساعة بإجراءاتهم الخاطئة والتعسفية المكشوفة والواضحة، ولا مجير أو رقيب أو حسيب، فإلى أين تتجه الأمور؟ فليسعف الوطن أبناءه وكفى! كفى من بعض حكوميينا (استغنامنا) وكفى تحويلنا إلى أجساد بلا أرواح! وليكفّ أولئك عن جعلنا مسيلي دموع لتماسيح العالم (المتحضّر)، فدموعنا نحن جفّت. نعم، لقد جفّت مآقينا بانتظار ما يقينا شر الدموع والبكاء على وضع بات يمثّل وطناً يلفظ معنا أنفاس حياة ممكنة وقابلة للاستمرار بإنعاش الضمير.