العرض الأول لفيلم (أمينة): أيمن زيدان مخرجاً سينمائياً بامتياز!

دمشق – عماد نداف:

أضاف الفنان السوري الكبير أيمن زيدان، إلى ثروته الفنية الضخمة في مجال التمثيل والإخراج والكتابة، تجربة ذهبية هي الأولى من نوعها على صعيد الإخراج السينمائي، في فيلم (أمينة) الذي قُدِّم عرضه الخاص في سينما سيتي بدمشق.

والفنان أيمن زيدان في سيرته الفنية فنان مبدع شغله المسرح منذ نشاطاته الشبابية، فعاد وأصّل المواهب عنده بدراسة تفوّق فيها في المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق، ثم صعدَ نجمُه في الدراما التلفزيونية السورية إلى أن أصبح من كبار نجوم سورية.

وإذا كانت تجربته في الدراما التلفزيونية كبيرة جداً، وأثرَتْ مكتبة الدراما السورية بعشرات الأعمال، فإن اللافت في طموحاته هو اقتحامه لمجال الإخراج بالتدريج، وكأنه لا يريد لهذه الموهبة أن تذوب مع انشغاله في التمثيل ودخوله في دائرة الضوء على هذا الصعيد، ولذلك فاجأنا أكثر من مرة بإخراج مواد تلفزيونية من بينها أغنية (كذبك حلو) لميادة بسيليس، ثم كشف عن موهبة خلاقة في أعمال درامية تلفزيونية كبيرة من بينها: ليل المسافرين، طيور الشوك، ملح الحياة، أيام لا تنسى.

وحصة أيمن زيدان في السينما كبيرة، ولا مجال للحديث عنها لأنها تتعلق بأكثر من عشرة أفلام، أما انتقاله للإخراج السينمائي في تجربة جريئة وناجحة فعلاً، فهي المرة الأولى في فيلم (أمينة) الذي نتحدث عنه، وأثبت فيها أنه قادر على تنفيذ طموحاته رغم مصاعب هذه الصناعة في سورية.

أخطر ما في (مغامرة) الفنان الكبير أيمن زيدان المتعلقة في إقدامه على إخراج الفيلم السينمائي المذكور هو أنه لم يكن الفيلم الأول عن الحرب في سورية، وقد طُرق باب هذا الموضوع من كبار مخرجي سورية، وكان هو من المشاركين في هذا الإنتاج كممثل كبير (فيلم الأب نموذجاً).

إن موضوع الحرب في سورية خطر من جهة الكتابة الروائية والقصصية والسينمائية، فكيف هو من جهة الإخراج السينمائي، فالمشاهد السوري، وهو المعني أولاً بالفيلم، شهدَ واقعاً أشدّ خيالية من أي نص أدبي أو سينمائي أو تلفزيوني، وبالتالي، فإن الإقدام على إخراج فيلم يحاكي الحرب في سورية هو مجازفة لا يُقدم عليها إلا مُبدع!

فماذا فعل أيمن زيدان في فيلم (أمينة)؟!

مختصر قصة الفيلم، الذي كتب السيناريو له أيضاً الفنان أيمن زيدان بمشاركة سماح القتال، أنه يتحدث عن نموذج (الأم) المنكوبة في الحرب، يصاب ابنها الجندي فيعجزُ عن الحركة والنطق، ويموت الأب، فتبقى الأم بمواجهة مصاعب الحياة ومعها ابنتها طالبة الجامعة. أي أن القصة (لأول وهلة) بسيطة على صعيد الإيقاع الدرامي لأنها لا تناقش المعركة التي أصيب فيها الجندي ولا تأخذنا إلى بطولاته على طريقة الأفلام الأخرى، بل يفاجَأ المشاهد بأنه أمام إنسان عاجز يُذكّرنا برواية (المريض الانكليزي) لمايكل أونداتجي التي تحمل الاسم نفسه، والتي تحولت فيلماً أخرجه أنتوني منغيلا وأنتج عام 1996 وفاز بأوسكار أفضل فيلم لذلك العام. وهذا نوع من التحدي الإضافي في تجربة الإخراج السينمائي عند أيمن زيدان، فماذا فعل؟ وماذا قدم لنا في فيلم (أمينة) أول تجربة إخراجية له في السينما؟!

حقق الفنان الكبير أيمن زيدان في تجربته الإخراجية السينمائية الأولى أربعة نجاحات دفعة واحدة، والحديث عن (السيناريو) ومضمون الفيلم، مسألة أخرى لن أتحدث عنها الآن، مع ملاحظة أنني لم أشاهد الفيلم إلا مرة واحدة:

الأولى، قام أيمن زيدان بتقديم إضافة جديدة إلى الصورة في السينما السورية، وهي عملية صعبة مع وجود مخرجين كبار أمثال نجدة أنزور وباسل الخطيب وعبد اللطيف عبد الحميد، برعوا في استخدام الصورة على نحو يليق بطموحات الشاشة السورية، مع ملاحظة أن الصورة في السينما ليست استعراضاً لإمكانات الكاميرات والعدسات ومقدرة المصورين المبدعين، وهذه نقطة لم تغب عن باله، ولكن بالنسبة للمخرج يتعلق استخدام الصورة بآلية استخدام هذه الطاقات وتوظيفها بما يساعد على شرح الأحداث وتشكيل المواقف منها ناهيك تحقيق المتعة البصرية أحياناً.

وبصدق تمكّن أيمن زيدان من تحقيق هذه الجدلية ببراعة نادرة، لا يمكن التعريف بها من خلال ما نكتبه على الورق، ويمكن تذكّر هذه المسألة في بعض المشاهد: حركة الماء وهي تسيل على عنق الجندي العاجز الذي تقوم أمه بتنظيف جسده (حمّام) وتحويل تفاصيل الصورة إلى عوامل بارزة في تشكيل الموقف لدينا. وكذلك مشهد بخار الماء المتصاعد من جثة الأب أثناء غسله قبل الدفن، وتقطيع الصورة مع حالة الابن العاجز الشبيهة بحالة الأب الميت. وفي مشهد نهوض الجندي من شلله/ عجزه، عندما تبوح الأم لابنتها بهمومها الناتجة عن مأساته، تحرك المشاهدون في الصالة تأثراً بردّ فعل واضح ملموس للمشاهدين في الصالة، وفي مشهد تصوير الأم من داخل الغرفة وهي تنظر إلى ابنتها الجالسة خارج الغرفة تشكيل بصري أخاذ وموظف في سياق السيناريو بدقة.

لقد استخدم الفنان أيمن زيدان التصوير في تقديم الرسائل الفنية والإنسانية التي يريدها، وهذه العملية ليست مصادفة، بل طريقة عمل ورؤية، فتصوير مشاهد القمح على البيدر ثلاث مرات، بين بداية الفيلم ونهايته لم تكن مجرد براعة في التصوير بل تشكل بحد ذاتها رسالة الفيلم الكبرى كما أراها، وخاصة في المشهد الأخير من الفيلم عندما تقوم (الأم) وحدها باستكمال عملية فصل القمح عن السنابل، وهو استثمار إخراجي رائع في تصوير مبدع (مديرا التصوير: وائل وعقبة عز الدين).

الثانية: خاض أيمن زيدان (المخرج) مغامرة جميلة في عملية انتقاء الممثلين، فهو لم يعتمد على نجوم تستطيع شهرتهم فقط المساهمة في إنجاح الفيلم، بل قام بعملية انتقاء مُثلى للممثلين: انتقى (الفنانة الكبيرة نادين خوري) لدور (الأم)، وربما كان من الصعب انتزاع الحالات التعبيرية الوجدانية التي شاهدناها من داخل ممثلة أخرى تؤدي دور الأم وهي تتحدى أقدار الحرب، وانتقى أيمن زيدان (جود سعيد)، وهو ليس ممثلاً، لأداء أصعب الأدوار، وهنا تأخذنا التجربة إلى (رالف فاينس) في المريض الإنكليزي، فرغم أنه مشوه أحببناه في سياق الفيلم، وقد نجح رهان (أيمن) المخرج على (جود) الممثل!

بقي هناك دوران يتعلقان بهذه المسألة: دور شقيقة الجندي، الذي لعبته الفنانة الشابة (لمى بدور)، فلو أنه جاء بممثلة تفوقها جمالاً لفشل الدور، اعتمد على جاذبيتها وبساطة أدائها وصدقها، فاستثمرها فكان اختيارها من عوامل نجاح الفيلم.

أما نجاح قاسم ملحو، فيعود إلى أن انتقاءه أصلاً كان عن خبرة في إمكانات الممثل نفسه، لأن قاسم نجح من قبل في أدوار شبيهة بتفوق، وكانت لمسة أيمن زيدان تتعلق هنا باستخدام اللون على صبغة شعره وثيابه (وهو استخدام موظف) لخلق انطباع إدانة بصرية عند المشاهد غير الإدانة الطبيعية في ممارساته!

الثالثة: استثمر أيمن زيدان جمال المناطق السورية في انتقاء أماكن التصوير، فنحن بحاجة إلى تعبيرية المشهد، ولم تكن هذه التعبيرية لتصل إلينا لولا الأثر المضاف في انتقاء الأمكنة على هذا النحو.

الرابعة: أخيراً قام الفنان أيمن زيدان بإقفال (النص الدرامي) المتعلق بالبطل (الجندي)، فصار الجندي الجريح (مأساة)، والمأساة طغت على البطولة، وهذا حقه باعتباره كاتب السيناريو، ونتوقع أنه أراد منها تشكيل حالة إحباط عند المشاهد، وتحفيزه على تشكيل موقف سريع وحازم من الانتهازية والفساد في المجتمع الذي يعاني من الحرب، وكأن أيمن زيدان أراد من هذه الرسالة أن يقوم المجتمع الآن بمكافحة الانتهازية والفساد الذي ظهر في الحرب على غيرها من مهمات ما بعد الحرب!

ولكي لايؤاخذ الفنان أيمن زيدان على هذا الإقفال للنص جعل نهاية الفيلم مفتوحة بعكس القصة، فبعد موت الجندي (البطل) أنهى الفيلم بمشهد أسطوري مفتوح هو مشهد (الأم) أي نادين وهي تشد (المورج) آلة الحصاد بجسدها بدل الأحصنة لأن ما يحتاجه هذا الإحباط هو بالضبط هذا المشهد الذي يصنع وطنا جيدا بطلته الأم!

ولقصة الفيلم مقال آخر.

العدد 1102 - 03/4/2024