المحتوى الحقيقي لخطاب ليبراليي العرب الجدد

بولس سركو:  

 تصل حالة العصاب إلى ذروتها عند اللبراليين العرب الجدد، الأذناب الممولين من قبل المخابرات الأمريكية، لمجرد ذكر كلمة (مؤامرة) أو مجرد حديث عن عمالة للمشروع الاستعماري الجديد، ببساطة لأنهم منخرطون بالكامل في هذا المشروع وهم جزء أساسي منه، وامتداد مقحم فوقي راديكالي لإيديولوجيا المركز الرأسمالي داخل الأطراف، وهم جميعاً يتحركون على (خطوط الصدع)، حسب تعبير هنتنغتون، وضمن الحلبة التي رسم حدودها الدموية في أطروحة صدام الحضارات منذ عام 1993.

كل الشد العصبي على شاشات الفضائيات الخليجية الذي نسمع صداه يتردد على ألسنة فئات غير ناضجة سياسياً، هو بسبب إحساسهم العميق – كمستخدمين في متجر الفكر- بازدراء الذات ومحاولة التعويض بخطاب تهكمي متعجرف، ولأنهم يعرفون في دواخلهم أن صفة (المناضلين السلميين) التي تطلقها واشنطن عليهم هي صفة كاريكاتورية، لتبرير الرشوة التي يتقاضونها على تعبيد الطرق التي تحمل شاخصاتها عناوين المشاريع الإصلاحية الديمقراطية والحقوق الفردية المدنية بجثث الفقراء، الرشوة التي بلغت دفعتها الأولى 18 مليون دولار عام 1999. 

من الأمثلة على ذلك الانخراط، القاضي الدولي لمنظمة التجارة العالمية المصري سعيد النجار (1920- 2004) الذي اشترط على الرئيس المصري السابق حسني مبارك لتسلم الشؤون الاقتصادية في رئاسة الوزراء المصرية، إجراء إصلاحات سياسية تتضمن تحولاً ديمقراطياً لفرض آليات السوق باعتبار الليبرالية الاقتصادية جزءاً من ليبرالية شاملة ثقافية واجتماعية وسياسية. ولما كانت موافقة مبارك على ذلك الشرط مستحيلة، لجأ النجار إلى منظمات العولمة (المجتمع المدني وحقوق الإنسان) التي أصبحت أهم المنصات الاجتماعية لفرض أمركة العالم، فشكل جمعية (النداء الجديد) كمنظمة أهلية غير حكومية ومنبر للدعوة إلى الليبرالية الجديدة.

من الأمثلة البارزة أيضا السورية بسمة قضماني (المديرة التنفيذية لمبادرة الإصلاح العربي) التي تأسست عام 2005 وأشرفت على عمل مجموعة من مراكز البحث وخبراء علم الاجتماع، ولعبت الدور الأكبر في دعم تشكيل منظمات المجتمع المدني السوري ومنظمات حقوق الإنسان السورية التي تسلم منصب عضو إدارتها المفكر السوري الراحل صادق جلال العظم (1934-2016) وتحولت إلى مواخير لتقويض وتحطيم الأمن الاجتماعي داخل النسيج السوري، لصالح مشروع واشنطن الحقيقي (الشرق الأوسط الكبير) المطروح عام 2004 على قمة الثماني، الذي تلحف بالمشروع الإعلامي لنشر الديمقراطية.

كل مؤلفات وأفكار الليبراليين العرب الجدد باختلاف عناوينها وأساليبها تصب في هاجس أعلى هو إحداث انقلاب مفاهيمي عاطفي في وعي شعوب المنطقة يقوم على محو الأسباب الحقيقية للحروب من مصالح اقتصادية وأمنية رأسمالية وما خلقته من كراهية للسياسات الأمريكية، والاستعاضة عنها بكراهية بغيضة مصطنعة داخل أنسجة المجتمعات العربية، بحجة أمريكية المصدر تعتبر غياب الديمقراطية في المنطقة يخلق البيئة الملائمة لنمو الإرهاب، بما تتضمنه هذه الحجة من استغلال غير أخلاقي لحاجة شعوب المنطقة الفعلية إلى الديمقراطية.

أقر الليبرالي الأردني الجديد شاكر النابلسي (1940- 2014) بوقاحة صادمة بالوجهة التي تقود إليها معركة الديمقراطية، من خلال المبادئ التي نص بعضها على: عدم الحرج من الاستعانة بالقوى الخارجية لدحر الديكتاتورية واستئصال جرثومة الاستبداد وتطبيق الديمقراطية العربية في ظل عجز النخب الداخلية والأحزاب الهشة.

– لا حرج من أن يأتي الإصلاح من الخارج بالطرق الدبلوماسية، فالمهم أن يأتي سواء على ظهر جمل عربي أو دبابة بريطانية أو بارجة أمريكية أو غواصة فرنسية.

– الوقوف إلى جانب العولمة وتأييدها.

هذه الدعوة الصريحة إلى التبعية بالعنف لاقتها دعوات ناعمة أيضاً، فالعراقي سيار الجميل تبنى مرتكزات عزمي بشارة لعروبة جديدة (أمة مواطنين منفتحة) متجاهلاً تضمين معنى الانفتاح شرط السيادة والندية، لتظهر التبعية وكأنها قدر ومصير حتمي أو مسالة هامشية، بالنعومة نفسها التي استبعد فيها خيار المقاومة والممانعة لإعادة الحقوق العربية من مغتصبيها (بوسائل العصر الحديث) متخيلاً وضعية حضارية رومانسية خارقة لشعوب تعاني الاضطهاد والتهجير والتهميش والتهديد الوجودي اليومي (مقالة العروبة الجديدة /موقع العربي الجديد ت1/2018)0

صورة أخرى عن العجز والدعوة للتبعية طرحها الكويتي أحمد البغدادي (1951-2010) في مقالته (لماذا انتشرت العلمانية في العالم؟) شبه فيها محاربة العولمة بمحاربة طواحين الهواء وقال: (في العولمة لا خيار، فإما القبول أو الانقراض).

أما التونسي هشام جعيط الذي ذيّل حواره مع الصحفية التونسية حياة السايب على موقع الفيصل 2016 بالروح الانهزامية نفسها بأننا (تابعون للآخر أي للغرب في كل شيء)، فقد أحال التطرف الإسلامي إلى إيران الشيعية حسب تعبيره واتهم روسيا بالتظاهر بمحاربة داعش فقط لدعم نظام الرئيس بشار الأسد، في ترديد ببغائي للخطاب السياسي الأحادي الأمريكي.

واستخدم اللبناني علي حرب الذي يتبنى النظرية التفكيكية لجاك دريدا، لغته الفلسفية لتحقيق استراتيجية ما بعد الحداثةن لتدمير كل ما هو سائد وخلق الاضطراب الذهني والحيرة واليأس من الفكر الإنساني التقدمي، ومن النضال في سبيل تحقيق قيم العدالة الاجتماعية معتبرا أنه (ليس ثمة تأويل نهائي للحقيقةن فالحقيقة سيل من التأويلات).

تؤكد هذه العينة المتنوعة الانخراط الكامل في مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي تطلب استبعاد صورة المستعمر الأمريكي الجديد من ذهنية الشارع العربي والاستعاضة عن الاستبداد والدكتاتوريات المحلية باستبداد ودكتاتورية الولايات المتحدة الأمريكية، لذلك فان الواقع الدموي المرير والمروع الذي نعيش فصوله منذ ثماني سنوات هو في جزئه الأكبر نتيجة للخطاب الأمريكي الذي ترجمه الليبراليون العرب الجدد وهم يحضرون الساحات المحلية للعنف الهوياتي، خطاب المستعمر الجديد القادم رافعاً راية الحرية والديمقراطية، الخطاب الذي يفرض علينا الليبراليون العرب الجدد ضرورة قبوله كرأي آخر واحترامه كأحد المقدسات الجديدة في وسائل العصر الحديث.

إنهم يطلبون منا احترام رأي ملقن لا يحترم وجودنا ولا كرامتنا الشخصية والوطنية، يحمّلنا نحن مسؤولية حروب الرأسمالية وجرائمها ضد الإنسانية. وقد تحدث جورج قرم في كتابه (نحو مقاربة دنيوية للنزاعات في الشرق الأوسط، ص 69) عن تماهي هؤلاء المثقفين والباحثين، مع شعارات وسياسات القوى التي هي مصدر انفجار الصراعات وقال: (لا يطلب البشر العاديون الحرب، فهم دعاة سلام لا يطمحون إلا إلى العيش الآمن، وإنما النخبة السياسية المتعطشة إلى مزيد من السلطة والمكاسب المادية، فالحرب والعنف قبل أن يطولا الجسد ويجلبا الموت والدمار هما في البداية حرب كلامية واستحداث معانٍ تحمل العداء للآخر والانتقاص منه). وتحدث ص124 عن غياب تحليل الأسباب الدنيوية لمظاهر القوة والغزو والانفكاك الاجتماعي في كل مكان، الناجم عن تلازم النيوليبرالية والمحافظين الجدد، واصفاً المرحلة التاريخية التي نمر بها بازدياد المظالم الاجتماعية والاقتصادية والعذابات الفتاكة وانحلال الدول على أسس عرقية ودينية.

العدد 1102 - 03/4/2024