عشرون عاماً على رحيله.. هادي العلوي لا يجلس على مقعد الغياب

عبد الرزاق دحنون:

عشرون خريفاً على انفلات قدمه من ركاب الحياة التي أعطاها أكثر مما أخذ منها، لأنه صوفي النزعة والسلوك. انطلق الحصان دون فارسه يجول في سهوب آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية متلمِّساً بين الخلق مشاعية قادمة. عاش سنوات عمره الأخيرة، بعد تشرُّد طويل، في ضاحية (دُمَّر) السكنية في مدينة دمشق. وعلى باب بيته تطالعك عبارة تقول: مُرتقى الحضارتين. دُفن في مقبرة (الست زينب) من ضواحي العاصمة السورية. لا شيء يحمل إلينا المواساة إلا أننا لن ننساه مدى الحياة، لأنه صرخة مستديمة في وجه الظلم والعبودية. فهو الذي كان (يجلو ضباب الحروف، ويمنحها قوة الروح، وسلطة الضمير) على حدِّ تعبير وليفه ورفيق دربه الشاعر والخطاط المُبدع محمد سعيد الصكار. ونواسي أنفسنا بأن الحظَّ حالفنا لنعيش معه ونعرفه ونحبه ونتعلَّم منه ونحني رؤوسنا نحن والكثيرون من أهل هذا العصر أمام إنسانيته الجبَّارة المقاتلة، وبأن الكثير من الخلق سيولدون ويفتخرون به.

أحياناً أفاجئ نفسي وأنا أفكِّر على النحو التالي: هرب هادي العلوي من الشهرة، بل كان يمقتها ويصنِّفها من خساسات المثقفين. ولكنه وصل إلينا بعلمه وفضله، أحببناه وتلهفنا لقراءة أي بحث يكتبه، لأنه كان باحثاً من الطراز الرفيع. فرحنا به عندما جاء إلينا في معرة النعمان كي يجاور ويحاور فيلسوف المعرة (أحمد بن عبد الله التنوخي) ويأنس به ويكتب عنه دراسة لعلها أجرأ ما كُتب عن أبي العلاء المعري على مرِّ العصور.  صدرت دراسته في كتاب (المنتخب من اللزوميات نقد الدولة والدين والناس). إن جهل الإنسان لهذا المفكر والباحث الجليل لا يغتفر إذا كان لديه أدنى اهتمام بعلم اللغة والفلسفة والتاريخ والتراث الإسلامي والصيني.      

نشأ في (كرادة مريم) وهي ضاحية ريفية من ضواحي بغداد يصدق على أهلها وصف فريدريك إنجلز: فلاحون مستقرون لكنهم في حالة انحطاط. والده عامل بناء أمّي، وجدّه السيد سلمان فقيه لم يدركه، فقد مات وعمر هادي خمس سنوات. ولما بلغ الرابعة عشرة من عمره وبدأ يميل إلى القراءة عثر على بقايا مكتبة الجد التي أهملها أولاده الأميون، ومنها نهل علومه الأولى. حفظ القرآن ونهج البلاغة. ولما مضى في قراءة مصادر الفقه والتفسير والتاريخ تبين له حقيقة أولية هي التي كانت نقطة الانتقال، وهي أن التاريخ الإسلامي ليس من عمل السماء بل من عمل البشر. أنهى دراسته الثانوية سنة 1950 وتخرج في كلية التجارة والاقتصاد بتفوق، وزاغ عن مصافحة جلالته حين وزع الشهادات على المتفوقين، لأنه اعتقد بأن جزءاً غير يسير من مأساة الشعب العراقي سواء في جانبها الوطني أو الاقتصادي تعود إلى تخاذل الأسرة المالكة وخضوعها لإرادة الأجنبي.

من منجزات هادي العلوي الكبرى إعادة اكتشاف الفلسفة الصينية وشرحها لجيل نهاية القرن العشرين. أودعَ خلاصة ما عرفه عن أهل الصين في كتابه (المستطرف الصيني) الذي ألفه في بكين سنة 1992 والتي  رحل إليها من بغداد سنة 1976 بمعونة صديقه الشيخ جلال الحنفي البغدادي، الذي كان يدرس اللغة العربية في جامعة بكين، فأخبره أن الصينيين طلبوا منه أن يرشح لهم من يحل محله ممن يرضى خلقه ودينه، فاختار هادي العلوي.كتاب (المستطرف الصيني) من طراز (المستطرف الجديد) نفسه، الذي تضمن الخلاصة مما عرفه وحفظه من التراث الإسلامي، والذي أرد منه مزاحمة حسين مروة، رائده الأكبر، في سيرورة إنهاض تحتاجها أمة غافلة بتنبيهها إلى إرثها الحضاري، الذي كان سيعصمها من الزلل لو لم تنقطع عنه. وفي (المستطرف الصيني) أراد من العرب أن يعرفوا من ثقافة الشرق ما يعادل معرفتهم بثقافة الغرب محدواً بالأمل في أنهم سيعيدون اكتشاف أنفسهم ليس فقط من خلال تراثهم، بل وأيضاً من خلال الثقافة الشرقية التي هي من نسيجهم نفسه. وليس في الكتاب ما يستهدف خدمة الصين لأنها أنعمت عليه بالأمن والحياة بعد أن تعذر في وطنه العربي الكبير.

سيجد القراء أن أوسع أبواب كتاب (المستطرف الصيني) هو باب الفلسفة، لأن هادي وجد فيها حياة الحكمة الشرقية التي يتمناها بعض المنورين في الغرب وتستعصي عليهم. وقراؤنا في حاجة إلى باب الرحمة والحنان البشري مع حق الدفاع عن النفس في وجه الثروة والقوة، بعدما عانوا مما يزيد عن الكفاية من قهر الحكام وتسلط الأقوياء، والحكمة الصينية هي ما يؤلف مع فكر التصوف القطباني في الإسلام فرعين متكاملين للحس الإنساني يستريح إليهما المتعوب، فيما يجهدان به كلٌّ بوسائله الخاصة لرعرعة شخصية إنسانية حرة بازدراء ما يتمتع به الأقوياء وحكامهم من وسائل التسلط. وهما في ذلك مسكونان بالهاجس البشري القديم، هاجس إخراج الناس من ورطات الذل والفقر وتمليكهم ما يستغنون به عن التعب والكد، مما لا يتحقق دون إخراج الذهب من قصور الأباطرة إلى بيوت الناس.

درس هادي العلوي التراث الإسلامي بعمق، وساح في كل أطرافه مكاناً وزماناً، دخل التراث عن طريق الدين، فقد قرأه بحكم نزعته المتدينة في صباه والموروثة عن جده السيد سلمان. وكان قد وقع بين يديه كتاب اللبناني جورج حنا، المعنون (ضجة في صف الفلسفة) فاستأنس به كثيراً، وهو كتاب بسيط يعكس شفافية جورج حنا وأسلوبه الظريف الطليق. وهذا يعني أنه انتقل إلى الماركسية من خلال التراث نفسه. ولم يتخلَّ عن التراث لأنه صار ماركسياً، كما يفعل كثيرون عندما ينتقلون من حالة التدين أو الاعتقاد، فينبذون كل شيء وراءهم، ليتأدبوا بطريقة أحادية، لأن دراستهم السابقة للتراث إيمانية وليست شكية. والدراسة الإيمانية لأي مذهب تمكِّن من الانتقال الفجائي والقاطع إلى المذهب الآخر. إن الطريقة المثلى للتطور الفكري عند الإنسان كما اكتشفها هادي العلوي بتجربته الشخصية ومن قراءته لتجارب مفكري الإسلام في عصورهم الذهبية هي أن يكون تداخلياً وليس ارتدادياً، وذلك حين ينطلق من نقد المقروء بالاستناد إلى معرفة فلسفية.

نشَرَ مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي كتاب المفكر العراقي هادي العلوي (مدارات صوفية) عام 1997، ضمَّ الكتاب شراذم من التراث الفكري لأهل الثورات المشاعية في الشرق. والكتاب من أخطر ما ألف هذا الباحث المجاهد قبل رحيله عن الدُّنيا وأهلها. يقول في تقديم كتابه المذكور أعلاه: جاء في مجمله لتعزيز الوجدان الشيوعي عند أجيالنا الجديدة، لمساعدتهم في الخروج من حجاب العقيدة إلى فضاء الوجدان، ولزعزعة المألوفات التي تعلموها من الثقافة المترجمة. فلكي يكون الإنسان شيوعياً يجب أن يكون له قلب شيوعي لا مجرد فكر شيوعي.

أغلب الظن أن الذي مكَّنه من السير في درب الماركسية هو تأثيرات وضعه الطبقي في العائلة، لأنه عاش الفقر والجوع مع والدته، مما غرس في وعيه المبكر كرهاً لدولة الأغنياء. ومما زاد الطين بلَّة اكتشافه أن الإسلام يبيح التملك الخاص ويسمح بتقسيم الناس إلى مالك ومحروم وخادم ومخدوم. ترافق ذلك مع استمراره في القراءة واكتشافه المزيد من النقاط الحساسة التي صدمت وعيه الطبقي ونزعة الشك والبحث عنده وعدم خضوعه للجو السائد، وهذه حقيقة زاملته منذ الصغر. كل ذلك رفده كي ينتقل إلى صفوف الماركسيين.

في أوائل الخمسينيات اكتشف جريدة (الأهالي) لصاحبها المناضل الوطني كامل الجادرجي فصارت جريدته المفضلة. في الفترة الزمنية نفسها تعرّف إلى علي الشوك، أملأ مثقف عراقي وأحد أميز المثقفين في العالم العربي. توطدت معه علاقة متأخرة في الزمن لكنها أضافت الكثير إلى مخزونه المعرفي. والأهم في هذه العلاقة أنها ساعدته على التخلص من عناصر تخلف حضاري حملها معه من بيئته البائسة المتحلِّلة حضارياً، كان عليّ الشوك مصدر تأهيل للوعي والسلوك الحضاري واسترفاده. وفي ذات مرة مالحه صديقه الراحل يوسف عبد القادر فقال: أنت يا هادي رحمك الله إذ أخرجك من الكرادة الشرقية، ولولا ذلك لكان طول عمامتك ذراعين ولحيتك ذراعاً!

العدد 1102 - 03/4/2024