فضاءات ضيقة.. حَمَلة الشهادات العليا الإمكانيات والواقع

د. عاطف البطرس:

تتصاعد بين فينةٍ وأخرى حملات التهجّم على حملة الشهادات العليا، وبشكلٍ خاص شهادات الدكتوراه، والتشكيك بها، والإمكانيات العلمية لحامليها.

في عام 2001 زار موسكو الدكتور غياث بركات- وكان عضواً في القيادة القطرية، مسؤولاً عن مكتب التعليم العالي- واجتمع بممثلين عن الحزب، وعن اتحاد الطلبة، وعن رابطة المغتربين، وطرح معهم مجموعةً من القضايا، منها أنّ القيادة تبحث مسألة عدم الاعتراف بالشهادات التي تمنحها الدول الاشتراكية سابقاً، وبشكلٍ خاصٍ، كل من جمهوريتي أذربيجان وأرمينيا، وجرى نقاشٌ مطولٌ حول ذلك، ووصلنا بعده إلى استنتاج أن هذا القرار يظلم الذين حصلوا على شهاداتٍٍ بجهودهم، وهم الأكثرية، والمسألة يمكن أن تعالج بطرقٍ أخرى، لا تعتمد على الثبوتيات والوثائق فقط، لأنه يمكن الحصول عليها بسهولة وطرق ملتوية.

قلت للدكتور غياث، بعد أن تحدّث عن تزوير شهاداتٍ من فرنسا، ومن الولايات المتحدة، وغيرهما من الدول: (المسألة محلولةٌ، يمكن لكم تشكيل لجنةٍ مؤلفة من ثلاثة أشخاصٍ، أحدهم يتقن اللغة التي كتبت الأطروحة بها، وثانٍ من ذوي الاختصاص، والثالث خبير بالثبوتيات والوثائق، على أن يمثُلَ حامل الشهادة أمام اللجنة، وتُجري معه نقاشاً، يمكن من خلاله سبر معلوماته، ومعرفة مؤهلاته، بأسئلةٍ بسيطةٍ.

فأجاب الدكتور غياث حرفيا:ً (من وين بدّي جبلك متل هيك لجنة)؟ ويقصد النزاهة في إصدار الأحكام.

وأخيراً اعتّمدت مدة الإقامة في البلد مانح الشهادة، على أساس جواز السفر، وتاريخ الخروج والدخول إلى القطر.

تبقى المشكلة قائمةً عند تولي المناصب القيادية في الدولة، فكثير من حملة شهادات الدكتوراه، غير مؤهلين علمياً، بينما نجد من لا يحملون مثل شهاداتهم أكثر كفاءةً منهم، فهل يمكن تجاوز المعايير، وهل هي ضروريةٌ في المفاضلة، بين من يحملون شهادةً، وبين من يمتلكون الخبرة؟!

تتفاقم المشكلة مع الموفدين، الذين سيدخلون الجامعات، ويصبحون أعضاءً في الهيئة التدريسية فيها، ومؤهلاتهم وثائق وشهادات، لكن إمكانياتهم الحقيقية دون ذلك.

في الحياة العملية من هم أكثر خبرةً، وأوسع ثقافةً، لكن الشروط المرعية لا تُطبّقُ عليهم، والقيمة المعيارية هي المؤهلات الواقعية، وليست الافتراضية، حتى ولو أُثبتت بوثائق، فكيف ستحلّ الجهات المسؤولة هذه الإشكالية؟

يمكن الاعتماد على مقالاتٍ، أو أبحاثٍ، يتقدم بها حامل الشهادة، تخضع للجان تحكيمٍ، تثبت مؤهلات المتقدّم بطلب العمل في الجامعة، أو غيرها من الهيئات الرسمية، أما من لا يحملون شهادة دكتوراه، فيمكن أن نطلب منهم ضعف عدد المقالات أو الأبحاث، تعويضاً عن الشهادة، بذلك يمكن أن نقلل من وصول من حصلوا على شهادات بطرق ملتوية إلى مواقع المسؤولية.

يمكن أيضاً أن نتقصّى نشاط حامل الشهادة، كمساهماته في أنشطة المراكز الثقافية، وإلقاء محاضراتٍ، أو مشاركةً في ندواتٍ، أو لجان تحكيمٍ، وغيرها من الأنشطة، بمعنى آخر، الشهادة ليست نهاية المطاف، فكثيرون يحملون شهادات عليا، لكن نشاطاتهم تتوقف بعد حصولهم عليها، ويقابلهم أعدادٌ كبيرةٌ من المثقفين، والأدباء، والكتاب، والمبدعين، لا يحملون تلك الشهادات فلماذا نغلق بوجههم الأبواب؟

سؤالٌ برسم الإجابة عنه، لاسيما أننا ندخل مرحلةً جديدةً من إعادة البناء الوطني، الذي هدفه، ووسيلته: الإنسان.

العدد 1104 - 24/4/2024