عندما تُهـزم الولايات المتحدة في سورية!

تلوح في أفق الأحداث، التي فجرها الغرب في سورية، بل التي أقام من أجلها نظاماً استراتيجياً جديداً في المنطقة، بوادر انتصار لسورية وهزيمة للولايات المتحدة ونظامها الجديد في المنطقة. وتبدو الولايات المتحدة أكثر ارتباكاً وحيرة من أي وقت مضى في مواجهة هذا الوضع غير المألوف، منذ بدأت دعمها الجديد للمنظمات الدينية التي اعتادت على تسميتها بالمنظمات الإرهابية. فقد انتصرت الولايات المتحدة بانتصار هذه المنظمات في تونس وليبيا ومصر واليمن، ولكنها واجهت انتكاسة استراتيجية وسياسية في سورية حيث يهمها أن تحقق انتصاراً يفوق في أهميته لها ولخططها كل الانتصارات السابقة. ذلك أن انتصار الولايات المتحدة في سورية كان من شأنه أن يفتح الأبواب لهيمنة أمريكية كاملة على المنطقة العربية والشرق الأوسط، وكان من شأنه أن يفتح الممرات المغلقة بوجهها في طريق مهاجمة إيران، وبالتالي انهيار كل مقاومة قومية وإقليمية للنفوذ الاستراتيجي والسياسي والاقتصادي على المنطقة والإقليم. لم يكن ثمة مانع أمام الولايات المتحدة ـ ومعها الاتحاد الأوربي وتركيا وحلف شمال الأطلـسي ـ لأن تفتح عهداً جــديداً من الحــرب البــاردة شبيهاً بالبدايات القديمة للحرب الباردة التي أعقـبت الحرب العالمية الثانية، وذلك عندما كان التحالف السوفييتي ـ الصيــني لا يزال قائــماً. لقد أظهرت الولايات المتحــدة منذ بداية الصــراع على سورية استـعداداً غير مسبوق، لأن تعيد صراع الحرب الباردة مع روسيــا والـصين، عن طريق الضغط على البلدين غير الغربيين، للرضوخ للخطط الأمريكية الأطلسية الرامية إلى استخدام مجلس الأمن أداة لإخضاع العالم للنظام الجديد القائم على تحالف غير مألوف بين الغرب ـ والأطلسي أداته العسكرية الأكبر ـ والتنظيمات الإرهابية مثل (القـاعدة) و(الجهاد الإسلامي) والتنظيمات شبه الإرهابية. وأول وأكبر هذه التنظيــمات هو تنظيم (الإخوان المسلمين) بأجنحته الدولية الشاسـعة المنتــشرة في العالم ابتداءً من مصر، حيث كان التأسيس الأول، إلى باقي الأقــطار العربية وامتداداً إلى إندونيسيا وماليزيا وجنوب الفيلبين، وإن اختلفت الأسماء بين هذه البلدان. ويشمل هذا أيضاً التنظيمات الإخوانية المسلحة في بلدان آسيا الوسطى وخاصة أوزبكستان وقرغيزستان قريباً من الأراضي الإيرانية، وقريباً أيضاً من الأراضي الروسية، وغير بعيد عن أراضي الصين.
وصحيح أن الحرب بين الغرب بزعامة الولايات المتحدة على روسيا والصين بقيت حرباً باردة، ولكن لا يزال من الضروري مراقبة أحداث هذا الصراع بعد نتيجة المواجهة في سورية. فهل يصل الأمر إلى حدود حرب حقيقية تدافع فيها روسيا والصين عن مصالحهما الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط ضد خطط الغرب وأهدافه لتأسيس قواعد في صورة نظم حاكمة عربية وإسلامية تعمل على إغلاق البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر والخليج بوجه العبور الروسي والصيني؟
لعل أشد الأخطار لحدوث مثل هذا التحول في المواجهة بين الغرب بزعامة الولايات المتحدة والشرق، إذا جاز القول تعبيراً عن روسيا والصين وإيران والقوى التي تبدي استعداداً لمقاومة الهيمنة الغربية، يتمثل في إثارة الولايات المتحدة وأوربا وإسرائيل مشكلة الأسلحة الكيماوية السورية. لقد رأت الولايات المتحدة وإسرائيل أن هذه الأسلحة توفر الذريعة الكافية لتدخل أمريكي أو إسرائيلي ضد سورية. وظلت التهديدات الأمريكية ـ الإسرائيلية تتردد حتى عندما أعلنت سورية تعهداً واضحاً وقاطعاً بأن مثل هذه الأسلحة لن تستخدم إلا في حالة تعرض سورية لهجمات عدوانية خارجية.
يتضح بشكل جلي أن الولايات المتحدة وقعت في خطأ التقدير في ما يتعلق بإمكان إضافة سورية إلى جدول البلدان التي سقطت ضحية للتنظيمات الإرهابية. مع ذلك لا بد من القول صراحة إن الولايات المتحدة بقيت واعية بصعوبة التدخل في سورية عسكرياً، فيما يتجاوز حدود التمويل والتسليح للجماعات والتنظيمات الإرهابية. لقد أبقت الولايات المتحدة على أدوار السعـودية وقطر والإمارات في تمويل الصراع داخل سورية لمصلحة التنظيمات الإرهابية، الأمر الذي ساعد على إطالة زمن هذا الصراع. وفي الوقت نفسه فإن الشكوك في مدى جدية الولايات المتحدة بالنسبة لهذا الصراع في سورية بالذات قد راودت السعوديين ومساعديهم الخليجيين. بل إن هذه الشكوك راودت إسرائيل التي رأت دائماً أن الصراع على سورية وداخل سورية هو مسألة وجود بالنسبة إليها بالنظر إلى اعتبار الصراع في سورية مسألة يمـكن اعتبارها من المنظور الإسرائيلي الرسمي فرصة مواتية لمهاجمة إيران. وفي هــذا الصدد فإن إسرائيل فشلت في الحصول على نتائج من أي نــوع من وراء إطلاق حملة اتهامات زائفة ضد إيران بأنها تشارك في الصراع السوري بمقاتلين من الحرس الثوري الإيراني أو من المقاومة اللبنانية ممثلة في حزب الله.
مع هذا كله فإنه لا يمكن الادّعاء أن الولايات المتحدة، وفي ذيلها إسرائيل، قد خرجتا خاويتي الوفاض تماماً من الصراع السوري بعد كل الدلائل الواضحة على أن سورية تملك فرصة أعلى كثيراً للانتصار في هذا الصراع، وأن الولايات المتحدة وبالتالي إسرائيل لقيتا هزيمة. لقد كسبتا ولاء وضمانات النظم التي استولت على الحكم في ليبيا وفي مصر وفي تونس واليمن والسودان بشطريه، بأن لا عداء تجاه إسرائيل، وبالتالي فلا نيات معادية عسكرية أو سياسية من جانب هذه النظم التي أقامتها تنظيمات ذات طابع ديني متطرف. وتجيء هذه الالتزامات والتطمينات نتيجة للسلام مع إسرائيل الذي أقامته دول عربية وإسلامية لها ثقلها الاقتصادي والسياسي في المنطقة، مثل السعودية وتركيا وقطر والإمارات. هذا إذا لم نشر إلى الوزن الروحي الذي تتمتع به السعودية في العالم الإسلامي ككل.
وبالنسبة للموقف الأمريكي فإن الكاتب الأمريكي بول كريغ روبرتس يقول في مقالة نُشرت له في موقع (كاونتربنش) (27-29 تموزيوليو 2012) إن (الرئيس الأمريكي باراك أوباما لم يقل لماذا تستميت حكومته من أجل إسقاط الحكومة السورية). ويجيب عن ذلك السؤال بأن (الأول بين الدوافع هو التخلص من القاعدة البحرية الروسية، وبالتالي حرمان روسيا من قاعدتها البحرية الوحيدة في البحر الأبيض المتوسط. وثمة دافع ثان هو إزالة سورية مصدر الأسلحة والدعم لـ(حزب الله)، من أجل أن تتمكن إسرائيل من أن تنجح في محاولاتها لاحتلال جنوب لبنان والاستيلاء على مصادره المائية. وقد ألحق مقاتلو (حزب الله) الهزيمة مرتين بمحاولات إسرائيل العسكرية لغزو الجنوب اللبناني واحتلاله. وثمة دافع ثالث هو تدمير وحدة سورية بصراع ديني على النحو الذي دمرت به واشنطن ليبيا والعراق، وترك سورية للفصائل المتحاربة من أجل تمزيق البلد، وبالتالي إزالة عقبة أخرى أمام هيمنة واشنطن).
ولا يكتفي الكاتب الأمريكي بهذا التحليل الدقيق لأهداف واشنطن في الصراع السوري. إنه يضيف إشارة بالغة الأهمية إلى الغطاء الأخلاقي الذي تقدمه واشنطن لاستخدامها العنف في إسقاط حكومات أخرى، إذ تتحدث عن (جلب الحرية والديموقراطية وعن إسقاط دكتاتوريات فظة وحماية حقوق المرأة). والأمر الذي لا شك فيه أن الإدارة الأمريكية وأجهزتها المخابراتية قد انغمست في التفكير وفي الإعداد للخطوات التي يتعين عليها اتخاذها عندما تنجح القوى التي تحارب باسمها داخل سورية في تحقيق الانتصار على الحكومة السورية. ولكنها لم تفكر ـ أو بالأحرى هي أخفت عن العالم، التفكير في ما يمكن أن تفعله حينما ينتهي الصراع السوري إلى انتصار النظام على معارضيه، على الرغم من كل ما يحظَوْن به من دعم في صورة أسلحة ومقاتلين وأموال من مصادر تدعم الخطة الأمريكية. فهناك دائماً أفكار أمريكية بشأن ما يحدث بعد إسقاط النظام السوري، ولا شيء عما يحدث بعد انتصار النظام السوري (…).
هذا هو الموقف الحرج الذي تواجهه إدارة أوباما الآن بعد أن أصـبح بادياً لكل مراقب خارجي أو داخلي أن سورية تحقق انتصاراً على خصومها، وبالتالي على الولايات المتحدة والسعودية وقطر والإمـارات.. إلخ. وربما يحق لنا أن نرى أن النظم العربية – الإسلامية التي بذلت أقصـى جهــودها من أجل إنجاح خطط واشنــطن في ســورية كانت أكثر واقعية في نظرتها إلى نتائج هذا الصراع. فهي من ناحــية لم تكفّ عن مطالبة الولايات المتحدة بالتدخل المباشر في سورية عسكرياً على النحو الذي تم في السيناريو الليبي باستخدام قوات حلف شمال الأطلسي، تدعمهـا قوات (عربية) من قطر والإمارات. وهي من ناحيــة أخــرى، توقــعت أن يطول الصراع السوري زمنياً. فضلاً عن توقعها أن تربط إسرائيل حربها ضد سورية و(حـزب الله) بما تهدد به الدولة الصهيونية باستمرار من توجــيه ضربات جوية واسعة النطاق ضد إيران مستهدفة منشآتها النووية. ولم يعد خافياً أن المملكة السعودية ترى أن إيران هي مصدر إزعاج لها أكثر خطورة من أي مصدر آخر، وبالتالي إنها تفضل أن تتولى إسرائيل الشأن الإيـراني عسكرياً، إذا كان التدخل في الصراع السوري مستبعداً، وبصرف النظر عن الأسباب. ولكن هذا لا يمنع السعودية من إعطاء كل المبررات للولايات المتحدة لمواصلة الصراع السوري عن طريق توفير المقاتلين من أي بلد كان واستمرار إمدادهم بالمال وبالأسلحة.
ما تعنيه هذه الهزيمة لإسرائيل يتمثل في استمرار النخبة الحاكمة الإسرائيلية في تحريض الجانـب الأمريكي على أداء دور أكثر هجومية لحماية إسرائيل وباقي الحلفاء العرب وأنظمتهم. ولهذا فإن أول التوقعات من سلوك إسرائيل إزاء مثل هذا التطور في الصراع السوري سيظهر في صورة اشتداد حدة التحريض الإسرائيلي للولايات المتحدة على مهاجمة إيران. وهو ما ثبت حتى الآن أن إسرائيل لا تملك القرار بشأنه وتترك القرار للولايات المتحدة. مع ذلك فإن إسرائيل تستغل فترة الأشهر الثلاثة الباقية على موعد انتخابات الرئاسة الأمريكية في الثلاثاء الأول من شهر تشرين الثاني نوفمبر القادم لممارسة أقصى ما يمكنها من ضغط انتخابي على المرشحين في هذه الانتخابات أوباما الديمقراطي ورومني الجمهوري. والأخير قد أبدى أقصى درجات الاستعداد لإظهار ولائه لإسرائيل، ولكن أوباما لم يترك الساحة الإسرائيلية خالية لمنافسه.
ستكون هزيمة الولايات المتحدة في الصراع السوري جزءاً أساسياً في حملة انتخابات الرئاسة الولايات المتحدة بمضمونها الأمريكي والإسرائيلي على حد سواء طوال الأشهر الباقية على موعدها. يتقدم على كل الموضوعات في هذه الحملة ما إذا كانت الولايات المتحدة وإسرائيل تستطيعان الرد على هذه الهزيمة بهجمة عسكرية على إيران.
كاتب سياسي ـ مصر
عن (السفير)

العدد 1102 - 03/4/2024