قمة كينشاسا الفرانكوفونية وأسباب ضعف تأثيرها العالمي

 تحت شعار «الرهان البيئي والاقتصادي في مواجهة الحوكمة على المستوى العالمي»، عقدت رابطة دول الفرانكوفونية قمتها الرابعة عشرة في العاصمة الكونغولية الديمقراطية كينشاسا في 13 و14 تشرين الأول الجاري، بحضور 15 من قادتها، وممثلين عن الدول الأخرى المنضوية في إطارها. ورغم الكثير من القضايا المدرجة على جدول أعمالها، فإن النزاعات الدائرة فيها، وخاصة شمالي مالي مؤخراً وفي شرق الكونغو «الدولة المستضيفة»، قد طغت على القضايا الأخرى التي تعانيها الرابطة.

تعد الفرانكوفونية إحدى الرابطتين الدوليتين الموروثتين عن الحقبة الاستعمارية «الفرانكوفونية للدول الناطقة بالفرنسية، والكومونويلث للدول الناطقة بالإنكليزية»، بوصفهما رابطتين «حضاريتين» تجمعان بين المُستعمِر والدول المستعمَرة، وتسعيان إلى الإبقاء على هاتين الرابطتين، وإن تباين ما بينهما، بسبب من طبيعة الأوضاع الاقتصادية لدولهما، ومستوى تطورها ومقدراتها، وتالياً مدى ارتباط هذه الدول، أو استقلالها الفعلي عن شبكة العلاقات الاقتصادية- السياسية الفرنسية أو الإنكليزية.

 وتضم الفرانكوفونية 75 دولة وحكومة، منها 56 دولة تتمتع بالعضوية الكاملة و19 دولة مراقبة. وتأسست الفرانكوفونيةفي عام ،1970 وعقدت قمتها الأولى في عام 1986 في مدينة فيرساي الفرنسية، والأخيرة الثالثة عشرة في مدينة مونترو السويسرية في عام 2010. وتعقد الرابطة قممها الدورية كل سنتين، وتعتمد هيكليتها على القمم الدورية، وعلى مؤتمر وزراء خارجية الدول الأعضاء، وعلى المجلس الدائم للفرانكوفونية «الهيئة السياسية الدائمة التي تتابع تنفيذ قرارات قمتها. وخلافاً لرابطة الكومونويلث »التي تضم دولاً ذات اقتصادات ناجزة وقوية ومؤثرة»، وتالياً دورها وتأثيرها الدولي. فإن الغالبية الساحقة من دول الفرانكوفونية هي من الدول النامية، أكثريتها من الأفارقة الذين سيشكلون في عام 2050 نحو 85% من الناطقين بالفرنسية والذين يبلغ مجموعهم 715 مليون نسمة.

ولذلك ولأسباب أخرى أيضاً، تشغل التفاعلات والتطورات الإفريقية حيزاً رئيسياً من أعمال قمم الفرانكوفونية وهمومها وسياساتها كرابطة، وإلى جانب عملها الرابطي «الدولي»، فإن نشاط الفرانكوفونية الأساسي يتركز في إطار الترويج للغة الفرنسية وتعليمها، والدفاع عن حقوق الإنسان ودولة القانون. وتتولى الوساطة في النزاعات والمساعدة في تنظيم الانتخابات، وتدين الانقلابات العسكرية «علقت عضوية مدغشقر في عام ،2009 ثم مالي وغينيا بيساو هذا العام بسبب ذلك».

ورغم أن عمل الرابطة لا يلحظ عملياً تطوير العلاقات الاقتصادية وآليات تعزيزها، وصولاً إلى صيغ أوّلية من التكامل، كما في روابط أخرى كالاتحاد الأوربي، أو ناشئة كمنظمة شانغهاي للتعاون، ورابطة آسيان مثلاً، وهذا ما يسجل سلباً على الفرانكوفونية، وعلى توجهها الفعلي السياسي- الاقتصادي من جهة، كذلك على الأهداف الحقيقية للفرانكوفونية من جهة ثانية. إذ لم تحقق الغالبية الساحقة من دول الفرانكوفونية الاستقلال الاقتصادي الناجز. ويعتمد عدد واسع منها على الدعم الفرنسي، لا بل تطالب بعض دولها الصغيرة بالبقاء تحت السيادة الفرنسية، لما توفره هذه السيادة من مزايا اقتصادية وطنية. في الوقت الذي تطغى فيه ولو بشكل غير رابطي، أو جماعي، أو رسمي، مسائل الهجرة إلى فرنسا، وخاصة الأفارقة، وما تمثله من إشكالية وطنية – حزبية- سياسية فرنسية داخلية، عبر عن نفسها بقوة في الانتخابات وفي برامج الأحزاب الفرنسية المختلفة.

القمة ال14 التي افتتحها الرئيس الكونغولي جوزيف كابيلا، اقتصرت مرة أخرى على حضور 15 من قادة الفرانكوفونية «تولى كابيلا رئاسة الكونغو إثر اغتيال والده لوران ديزيريه في عام ،2001 وأعيد انتخابه في عام 2011». وطغى على جدول أعمالها أزمتا النزاع في شرق الكونغو الديمقراطية المستمر منذ سنوات، كذلك سيطرة المتشددين الإسلاميين على شمال مالي، وكيفية حل هاتين المشكلتين الإفريقيتين- الفرانكوفونيتين. ورغم حسم الصراع العسكري تقريباً في شرق الكونغو لصالح نظام كابيلا، واعتراف الاتحاد الإفريقي والفرانكوفونية بنتائج الانتخابات الكونغولية «التقى الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند على هامش القمة مع زعيم المعارضة إتيان تسيشكيدي 79 عاماً»، فإن انعقاد القمة الرابعة عشرة في كينشاسا يسجل نقطة تأييد إضافية للرئيس كابيلا ونظامه، إذ تعد دولته من أهم الدول الإفريقية. أما أزمة شمال مالي وانعكاساتها على البلاد ودول الجوار، فقد أعلنت الفرانكوفونية رابطة ودولاً، وبخاصة دول  الجوار لمالي وفرنسا، إدانتها لسيطرة الإسلاميين المتشددين على الشمال المالي.. كما سبق أن رفضت قبل ذلك الاعتراف بالانقلاب العسكري المؤقت. وتزداد أهمية شمال مالي مقارنة بنزاع شرق الكونغو غير المعترف به فرانكوفونياً ودولياً، الخشية من انتشار ظاهرة السلفيين والمتشددين، وتمددها في دول الجوار المالي «غالبيتها الساحقة فرانكوفونية»، وانعكاسات ذلك على هذه الدول، وتالياً على الفرانكوفونية أيضاً. ويضاف إلى هذا الموقف الفرانكوفوني قرار مجلس الأمن الدولي الذي أمهل دول غرب إفريقيا مدة زمنية لتوضيح خططها حول كيفية التدخل في شمال مالي، وبسط الحكومة الحالية سيطرتها على الشمال، و«إنهاء» ظاهرة التمرد الإسلاموي وتداعياتها قارياً وفرانكوفونياً. هاتان المسألتان طغتا على قمة كينشاسا. ونحن نشير إلى عدد من الملاحظات:

* اللغة المزدوجة التي تستخدمها «الفرانكوفونية»، وتحديداً القائمين عليها، وبخاصة فرنسا، في محاربة التطرف والتشدد الإسلاموي، وصولاً إلى الانقسام أو التمرد المسلح كما يحصل في مالي.. وتشريع التدخل وصولاً إلى المشاركة فيه في مناطق أخرى كأفغانستان والعراق «تشارك قوات فرنسية في البلدين».

* محاربة القاعدة وتفريعاتها ومثيلاتها في العديد من دول الفرانكوفونية، والدعوة إلى محاربتها، وتقديم الدعم في الوقت نفسه للمجموعات المسلحة السورية، التي يقرّ الغرب والولايات المتحدة بأنها العمود الفقري للمعارضة، وتتشكل أساساً من مجموعات القاعدة الإسلامية المتشددة، وصولاً إلى تسليحها ودعمها لوجستياً.

* اعتماد هذا النهج المزدوج في محاربة ورفض التمرد والتشدد الأصولي في مناطق فرانكوفونية غير استراتيجية »مالي، النيجر، السنغال«، وتأييد ذلك في مناطق استراتيجية إقليمية ودولية «سورية مثلاً».

* تأييد فرنسا تحديداً، وعدد من الدول الفرانكوفونية المؤيدة، ولأسباب عديدة للسياسة الفرنسية، للحلول في دول الجوار، والمبادرات الرابطية أو الإقليمية، وممارسة عكس هذه السياسة في مناطق أخرى «سورية مرة أخرى». وممارسة هذه السياسة أيضاً في سياق تعاطي المجتمع الدولي «مجلس الأمن.. إلخ» في معالجة العديد من الإشكاليات التي شهدها، ولايزال عالمناً، وبضمنها التدخل المباشر في الأزمة الليبية خلافاً لقرارات مجلس الأمن.

الفرانكوفونية بوصفها رابطة «حضارية» و«حقوقية» تعاني أصلاً من طبيعة تركيبها، ومن ماهية أهدافها وتوجهاتها كرابطة، ومن بعد القائمين عليها، أو المحركين لها عملياً، ويستندون في ذلك إلى ضعف الإمكانات والقدرات للغالبية الساحقة من دولها، وممارستها الانتقائية والازدواجية في التعاطي مع التطورات الدولية.. وهذا يضيف ضعفاً آخر على دور هذه الرابطة ومصداقيتها وتأثيرها العالمي، ويكشف الازدواجية والأنانية وضيق الأفق الاستراتيجي للدولة «فرنسا العظمى» التي رعتها.

العدد 1102 - 03/4/2024