تناقضات الدراما السورية في رصدها للواقع ورؤيتها للتاريخ الاجتماعي

رغم كثرة الحديث عن ظاهرة انتشار الدراما السورية ونجاحاتها، إلا أنها كغيرها من الظواهر لا تخلو من جوانب سلبية لا بد من الوقوف عندها.

ذلك أنها في طريقة تناولها لمختلف القضايا الاجتماعية، وخصوصاً منها الجوانب المتعلقة بالشباب والمرأة، تلعب الدراما السورية دوراً متناقضاً يمكن تبينه من خلال وجود خطّين متناقضين ومتعارضين بطرحهما في معظم الأعمال الدراميّة.

يمكن اعتبار الخط الأول خطّاً معاصراً يُعنى بتسليط الضوء على الواقع، والخوض في المسكوت عنه من سلبيات تعتري مجتمعاتنا المعاصرة، ويطرح التساؤلات حول إمكان إيجاد حلول لإشكاليات عالقة، وقد يقترح حلولاً لها، كقضايا الفساد في الكثير من مفاصل الدولة، ومشكلات الناس اليومية الحقيقية في أسبابها ونتائجها، كضعف الدخل والعمل الإضافي وآثاره على الفرد والأسرة، ومشكلات المراهقين والشباب الجامعي والبطالة في صفوف حملة الشهادات وغيرهم. كما تهتم بتحرر المرأة وإقرار حقوقها، إضافة إلى إشارات وإن كانت خجولة لقضايا ذوي الاحتياجات الخاصّة وخدم المنازل. إضافة إلى الأمراض التي تعتري المجتمع وعلاقاته كالتطرف والتوزيع غير العادل للثروة وغيرها.

وقد سجل العديد من الأعمال التي تنتمي إلى هذا الخط جرأة واضحة في معالجة مواضيع سجنتها الرقابة التلفزيونية والتابوهات الاجتماعية في زنزانات كانت جميع الأطراف سجانة عليها، منها قضية الحب والزواج من دين مختلف، وجرائم الشرف، وآفة المخدرات. واستطاعت أحياناً تقديم نماذج متميّزة، نساءً ورجالاً، تّتسم بالشجاعة والانفتاح والعقلانية في مواجهة مشكلاتها.

في المقابل هناك خط  آخر في توجّه الدراما السورية يزدهر بشكل خاص في شهر رمضان، ويتحول إلى مهرجان تغلب عليه تظاهرة مسلسلات ما يدعى (البيئة الدمشقية القديمة). وهو خط تجهيلي ماضوي، نظراً لما يقوم به القائمون على هذا النوع من الدراما من نبش القبور واستحضار عادات وتقاليد لم تبلَ فقط بل (أكل الدهر عليها وشرب) كما يقال.

يسعى هذا الخط من الدراما إلى تغييب الكثير من المعطيات التاريخية الهامّة في رسم الصورة الحقيقيّة لما كان عليه المجتمع السوري في الفترة التي تدّعي تلك الأعمال تجسيدها، لصالح ظواهر سطحية وهامشية غاية في التخلّف، لا ننكر أنها كانت موجودة في بيئات محدودة ـ بل وبعضها مستمر إلى الآن ـ  لكنها بالتأكيد لا تعكس حقيقة المجتمع السوري عامة، والدمشقي بشكل خاصّ.

ولعلّ من يقف وراء هذا الاتجاه ويروج له مدرك لماهية السم المدسوس في دسم هذا النوع من المسلسلات، والتي تلاقي رواجاً منقطع النظير ليس في سورية وحسب، وإنما في الدول العربية المجاورة، هل تعكس هذا النوع من الدراما تخلف وجهل البعض بشكل مجمل ومبرر فيدافع عنها ويتغنى بها؟! ربما نجد الإجابة لدى من يربط تعزيز هذا النوع من الدراما وانتعاشها بدخول المال النفطي على خط إنتاج الدراما السورية وتسويقها.

هل تقسيم المدينة إلى حارات متنازعة هو رغبة دفينة في نفوس البعض ليكون (عكيداً) في أحدها يصول ويجول على هواه، يأمر فيُطاع وسط انحناءات التابعين له المعجبين بسطوته؟!

ما الدافع وراء الإصرار على بطولة الفرد الوحيد المتفوق على جميع من حوله عقلاً ورزانة وحكمة، إن لم يكن تكريس ثقافة الاستبداد وعبادة القوّة؟!

هل تصوير المرأة الملتحفة بالسواد والتي لا هم لها سوى الطبخ ورضا (سيّدها)، والنميمة على الجارات يعكس حقيقة المرأة الدمشقية أو السورية في تلك الفترة من تاريخ سورية؟ هل النموذج الذي يريده هؤلاء لشبابنا، ذلك الذي يحلّ مشكلاته (بالخيزرانة) وتتناسب رجولته طرداً مع طول شاربيه وإذلال زوجته؟!

أم أنها دعوة للتمسّك (بالموروث) على علاّته، وتكريس عبودية المرأة وسيطرة الذكورة المريضة التي تسعد وتهنأ بجعل المرأة حبيسة البيت، والتغني بأيام زمان والتمني لها بالعودة بدل اللحاق بركب الحضارة؟!

قد يجد البعض في هذا التناقض تعبيراً عن التنوع وطرح الاختلاف القائم في المجتمع، لكن الملاحظ أن الخط أو التوجه الأول للدراما لا يلقى التهليل والدعاية التي تروج للاتجاه الثاني.

إنّ تشويه تاريخ المجتمعات في كثير من النواحي وتغييب مسائل بالغة الأهمية بقصد تحقيق غايات تخدم مصالح أطراف يهمّها أن يبقى المجتمع السوري بعيداً عن ركب الحضارة، مأسوراً بالماضي الذي يريدونه ليس مجرد اختلاف في وجهات النظر!

في ظل عالم يسعى أكثر فأكثر إلى المساواة ونشر ثقافة حقوق الإنسان، لابد أن يلعب الإعلام دوراً أكثر حضارة ومعرفة. وبما أن الدراما هي السبيل الأوسع للدخول إلى جميع المنازل عبر شاشات التلفزة التي تجذب مختلف أطياف المجتمع، بات من الضرورة بمكان أن يلعب المعنيون في الصحافة والإعلام ومنظمات المجتمع المدني دوراً في دفع القائمين على الدراما والمروجين لها جزءاً مهماً من مسؤولية تطوير المجتمع وتخليصه من رواسبه البالية. وأمام أزمة كالتي تعصف ببلادنا، والتّحديات الكبرى التي تفرضها، ربّما تكون الدراما واحدة من الوسائل الأساسيّة التي يمكن العمل من خلالها مستقبلاً على التخفيف من الاحتقانات والمشكلات التي أفرزتها تفاعلات الأزمة ونتائجها، عبر تكريس ثقافة المواطنة المتساوية القائمة على الحق والواجب، في إطار اجتماعي متكامل يحترم الفرد كجزء مؤسس للمجتمع ويعامل المرأة بما تستحقه من احترام وتقدير كشريك حقيقي في عملية التقدم الحضاري.

العدد 1102 - 03/4/2024