تجارب في الغربة ما بين الفرص والمعوقات

لقمة العيش وتكثيف الخبرات وتطوير الذات يحتاج من الشباب إلى خوض معارك كثيرة في الحياة من صعوبات وقرارات مصيرية في بعض الأحيان.  منهم من يقرر  العمل في أكثر من مهنة، أو العمل ضمن نطاقات ومجالات بعيدة عن اختصاصاتهم، أو الاكتفاء بمردودهم ولا حول ولا قوة، ومنهم من يقرر الغربة عن الوطن والتي تكون إما دائمة أو مؤقتة..

وهنالك نماذج كثيرة عن شباب تغرّبوا بحثاً عن فرصة لتحسين العيش أو التعليم ، منهم من هاجر إلى روسيا، ومنهم إلى أمريكا، ومنهم إلى البلاد الأوربية أو العربية، وهكذا تتنوع الأماكن، والغربة واحدة هي عيش خارج الوطن.. لكن ما يزيد ألم الغربة تلك الصعوبات التي تترافق معها، وما يلطّف تلك الغربة أيضاً الفرص التي تقدمها، وهذا ما حدثنا عنه العديد ممن التقينا معهم:

يقول إلياس الذي سافر إلى روسيا لدراسة هندسة كومبيوتر والماجستير: في البداية ذهبت إلى روسيا بفيزا تجارية ومن ثم بفيزا دراسية، وفي الفترة الأولى لي هناك عملت حتى كوّنت معارف، وأوصلوني إلى أشخاص لهم علاقات في الجامعة، ودخلت الجامعة، وهكذا بدأت حياتي الدراسية، لكن كان هنالك العديد من المشكلات التي أثقلت علي حياتي، منها نظرة الروس إلى العرب. فكانت الشرطة توقفنا بشكل متكرر لرؤية أوراقنا لأكثر من مرة يومياً، بفكرة أن العرب هم إرهابيون، وخاصة بعد أحداث 11 أيلول. وبالمقابل كان الروس يساعدوننا باللغة، ولا يبخلون علينا بالمعلومات والمعرفة، ورغم المعوقات تعلمت وتعبت لأكتسب المزيد من الخبرات،  وهذه الخبرات دعمتني وزادت من تصميمي على العودة إلى بلدي لأفيد بها الشباب والوطن. وعند عودتي لبلدتي الصغيرة، استثمرت عملي على المستوى الضيق للقرية، فمثلاً قمت بتقديم برامج محاسبة لكل من الصيادلة والمزارعين بما يتناسب مع تطلباتهم وخدماتهم من بيع وشراء وما شابه ، إضافة إلى عملي الآخر المتعلق بالخدمات العادية للكومبيوتر والنت. ليصبح شعاري في الحياة: (الذي ليس له خير في بلده ليس له خير في الخارج).

المهندس فادي  يتحدث عن غربته فيقول: سافرت إلى الجزائر واستلمت مشروعاً هندسياً، وهكذا بدأت حياتي الجديدة بمواجهة عدة مشكلات وصعوبات، إذ بقيت خمسة  أشهر في الصحراء الإفريقية الكبرى وعانيت من الطبيعة القاسية فيها ومن الحر الشديد والغبار الدائم المؤذي، فكنت أعمل وأعود مباشرة إلى الغرفة وأغلق الباب، ولم أستطع الخروج إلى أي مكان بسبب الخوف من وجود الحيوانات المؤذية. إضافة إلى عدة صعوبات منها: الوحدة والبعد عن الأهل والبلد – فالبلد غريب جداً عن بلدنا ولا أعرف عنه أية تفاصيل فهو مختلف في العادات والتقاليد والتفكير،  مجتمع حافل بالتناقضات، لذلك كنا نخاف من الاحتكاك مع الجزائريين. لا يوجد أمن في الجزائر، لذلك كنت عرضة للخطر في أي لحظة لأن البعض هناك يعتمد كثيراً على القتل من أجل السرقة، وأيضاً يتعاطون المخدرات والحشيش بشكل خيالي، لذلك لا يعرفون ما يفعلون ساعة الغضب. وكنت لا أميز بين الناس من منهم صالح ومن لا. لذلك بقيت لمدة شهرين لا أخرج من الغرفة نهائياً إلا للعمل فقط. الجزائريون شعب بسيط، لا يحبذون العمل، ويثورون بسرعة، ويميلون إلى العنف. واجهت صعوبة في التعامل معهم باللغة فهم لا يتكلمون إلا بلغتهم فقط، أو باللغة الفرنسية. بينما هم يفهمون لغتنا ولكن فقط بالفصحى أو اللهجة الشامية. تعرضت في بداية السفر لحادث مؤلم وعلى أثره أدركت ما معنى الغربة والبعد، وأيضاً واجهت صعوبة عند وفاة والدي، كنت في الجزائر ولم أستطع الوصول في الوقت المناسب  ساعة الدفن، وكان حزني كبيراً فلم أستطع رؤية والدي ساعة الوفاة وتوديعه، وكل ذلك بسبب السفر .

قدمت لي الشركة عروضاً مغرية لأبقى هناك، ومع ذلك رفضت بسبب اشتياقي لوطني وأهلي.

لكن للسفر محاسن منها  تحسين الوضع المادي، والخبرة التي استفدت منها في العمل. فهذا النوع من العمل غير موجود هنا فهذه المنشأة من أكبر المنشات النفطية في العالم، ومن خلالها يجري التعامل مع الجنسيات المختلفة (نحو 40 جنسية) مما أدى إلى توسيع مفهومي لجميع الجنسيات والمجتمعات (عادات وتقاليد ومجتمع ….) (فيليبين – الهند – كولومبيا – إفريقيا – الصين – إيطاليا…).

أما غياث فله تجربة في الغربة يقول عنها: سافرت إلى روسيا لدراسة هندسة الكومبيوتر، اجتهدت على نفسي باللغة والدراسة والعمل، فكنت أؤمّن مصروفي نوعاً ما،  ودرست الدكتوراه لكن ما شدني أكثر هو العمل بالتجارة، وكانت حكمتي : (إذا لم تتعلم شيئاً كل يوم، فإنك تفقد شيئاً كل يوم). ولأتعلم ما هو البيزنس وماهي التجارة عملت عند تاجر هناك، وبدأت أتعلم أسس النجاح، تعبت كثيراً على نفسي من سهر وعمل وتطوير لذاتي، وبعد أن اكتملت بعض الأسس بدأت بمشروع وبمدة زمنية قصيرة ظهرت نتائج جيدة وصار لعملنا اسم في السوق الروسية.

صار عمر غربتي اثني عشر عاماً، كانت الغربة معي بصعوبتها، فلم نعش هناك عاداتنا وتقاليدنا، كنت أخطط أنا وبعض إخوتي للعودة لسورية وفتح مشروع هنا، لكن الأزمة حالت دون ذلك.. ونحن على أمل عودة الأمن للوطن لنقوم نحن بمساندته.

أما إيلي فيتحدث عن سفرته إلى روسيا  بقوله: سافرت لأعمل، واعتمدت على نفسي فابتكرت الحلول وتحملت الصعاب. لأن السفر هو طريق للخوض في مجالات الحياة ،العمل هناك جعلني أستطيع شراء بيت في روسيا، وأرضٍ في سورية. لكن عندما تزوجت هناك من روسية وصار عندي أطفال باتت المعيشة صعبة جداً، وراتبي لم يعد يؤمن لي حياة كريمة بسبب الغلاء، فقررت حينئذٍ العودة إلى قريتي والسكن فيها مع عائلتي. يوجد هناك تسهيلات كبيرة بكثير من الأمور، فعند أخذي لقرض مثلا لا حاجة لوجود كفيل، وكانت الرواتب هناك قادرة على تسديد القرض.

أما السيد جمال فقد روى لنا قصته المؤثرة من تعب بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فقال إن أباه أصر عليه أن يسافر إلى روسيا ليدرس طب الأسنان، مع أن الحالة المادية كانت سيئة للغاية. فقام الوالد باستدانة  مال لسفر ابنه. ويقول جمال: سافرت وبدأت أدرس، ولكن في السنة الثانية تأزمت حالتي المادية، فاضطر أبي لبيع قطعة أرض ليبعث لي بالمال.. تركت جامعتي وذهبت للعمل في إحدى ولايات روسيا، تزوجت هناك لأخذ الجنسية ، ذهبت  إلى موسكو وبدأت أعمل لأحسن أحوالي المادية. استأجرت سيارة ووضعت فيها بضائع مختلفة وقمت بتوزيعها لحسابي الخاص، وبالفعل تحسنت الأ؛حوال. وبعد ثلاث سنوات عدت للجامعة لكن لدراسة الصيدلة. كبرت المصاريف بكبر عائلتي، عملت مديراً في مطعم، ثم مندوب مبيعات في شركة شوكولا، ومن خلال معرفتي لأشخاص هناك قاموا بترقيتي إلى مدير للمبيعات، وحينئذ بدأت أحوالي المادية تتحسن.

كان إخوتي يعملون هناك بعمل مشترك بينهم، فقمت أنا بالانضمام إليهم، طورنا العمل ووسعناه خلال سنتين ونصف تقريباً، العمل الخاص بروسيا جميل لأنه بمقدورك أن تطوره وتكبره.

إني موجود  في روسيا منذ سبعة عشر عاماً، وكانت تلك الأعوام حافلة بالصعاب حتى استطعنا الوقوف والمثابرة بآخر عامين.

واجهتني هناك صعوبات مادية كبيرة جداً، كنت أعمل وأعمل لأجد قوت يومي فقط، وفي مرات عديدة كنت أتناول وجبة واحدة أسبوعياً إلى أن انهرت ونقلت إلى المشفى. واجهت صعوبات نفسية من غربة وقسوة، وحتى من زواجي الفاشل، الذي انتهى  إلى الطلاق.

واجهت صعوبات أيضاً من السوريين الذين لا يساعدون بعضهم أبداً، فقد مررت بظروف صعبة جداً ولم أجد يداً مساعدة من أحد منهم، وعند تحسن أحوالنا التم جميعهم حولنا وصاروا من أصدقائنا، عدا الاستغلال الشديد الذي تعرضت له منهم.

استفدت كشهادة وعمل وخبرة من سفري إلى روسيا، والسفر برأيي يكسب الإنسان خبرات وعلماً وعملاً ومادة.

كنت أفكر بالعودة إلى سورية وفتح مشروع مع إخوتي، إلا أن الظروف الحالية منعتني من ذلك.

وهكذا تتغير وتتلون رؤية الشباب السوري للغربة، ففيها الأمل والألم، لكنها تصنع إنساناً مجداً وصبوراً وطموحاً… وإنساناً قادراً على صنع المشاريع والتغيير في نمط العمل وآلياته.

العدد 1102 - 03/4/2024