أيمن الدقر… معايشة بصرية لحكايات وجدانية لدواخل حزنه الدمشقي

يُعد الفنان التشكيلي السوري أيمن الدقر حالة مُفردة في عالم الفن والسياسة وإدارة المؤسسات النقابية والصحفية، بما يمتلك من مقومات أكاديمية وشخصية مُشبعة بمناهل ثقافته العربية علمانية الوهج والصدى والمكونات. يجمع في أشتات منبته ومولده الدمشقي  وسلوكه وفنونه صورة متسعة لبلاد الشام وياسمينها المطوق بضجيج ملوناته، وحزن حفرياته المرسومة والمتشحة بالحداد. علاوة على مقدرته في عزف تقاسيم ألحانه الموسيقية لمسرود كلام الشعراء المنثور في حبر الأغاني والتدوين الموسيقي. ليعانق قلمه الموصول بأعمدته المخصصة في مجلة (أسود وأبيض) التي يديرها بحِرَفية عالية، بمداد كتاباته الصحفية المعنية بقضية العرب المركزية فلسطين، والمحلقة في فضاء الحرية المفتوحة على إنسانية الإنسان العربي، الحالم بمستقبل خال من العبودية والعدمية والطائفية المقيتة. فلسطين عنوانه وسورية وجهته بالفن والسياسة والصحافة.

..ونلحظ في عموم لوحاته التصويرية القديمة منذ تخرجه في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق، والحفرية المعاصرة المواكبة لترجمات ضميره الشخصي والأخلاقي في حسبة تقنية متباينة ما بين تناسق التدريجات اللونية، وتناقض الأبيض والأسود الحفرية، تلك المحورية الغارقة في الهم الإنساني وذاكرة الأمكنة السورية المتدثرة بمعالم دمشق القديمة، وأيقونات السيد المسيح وأمه مريم البتول في رمزية المعنى، وظلال المبنى التشكيلي في كسوته التقنية والشكلية المستعارة من الواقعية التعبيرية والتعبيرية الرمزية. وثمة خطوط بصرية وملامح تفكيرية توحد مساراته التشكيلية مجتمعة في فصولها الشكلية، ومقدرته على نقل معاناته وترجماته الشخصية كمواطن يعيش في كنف وطن عربي سوري، مفتوح على أشعة الشمس ومفاتن الحرية المتجاوزة للأنانية والأحقاد، والمكرسة لمبادئ العدالة الاجتماعية والمساواة المحققة لكرامة الإنسان، والمجتمعة على سورية بلاد الشام الوطن والمواطنة.

لوحاته التصويرية والحفرية مسكونة بهواجسه المشروعة نحو ذاته الشخصية والوجودية في منطقة عربية مثل سورية، كانت وما تزال موئلاً للتاريخ وحاضنة، ومحطة مهمة في صناعة  الحضارات ومهبط الأديان. مُحلقة ومنادمة لفنون الأيقونة السورية، وتصبو إلى تشكيل عالمها البصري من عذابات السيد المسيح ورسم حالات من حياته وبعض من حواريه. وتجمع في بعضها الآخر توليفات شكلية لعناصر جامعة أيضاً ما بين رمزية الصليب والهلال في ولائم بصرية متسعة لسجل أفكاره وترجماته لما يجول في نفسه وبصره وبصيرته من مُثل وقيم بصرية وأخلاقية حميدة عابرة في مجرة لوحاته.

لوحاته التصويرية الملونة ذات النفحة الأيقونية، ملتزمة بخيارها الشكلي والتقني والمحاكية لمجمل الخطوات المعروفة في سبكها فكرة وتقنية، وتأخذ الشكل الكنسي في أقواسها العليا المنحنية والحاضنة لعناصر مفرداته التشكيلية، ولتترك ما حولها من اتساع المساحة المتدثرة بملونات ذات حساسية نورانية، يكون اللون الذهبي وتدريجاته ميدانها الطبيعي لمسك ناصية التوازن البصري، واللحظة الانفعالية الساعية لالتقاط رمزية الحالة، في عراك ريشته وسكينه مع باليت ألوانه وسبك عجائنه اللونية السابحة في مسارات الدائرة اللونية الرئيسة مع مراعاة لخصوصية الملونات الأساسية من أحمر وأصفر وأزرق وما بينها من تداخلات بينية.

بينما نتلمس في لوحات الحفرية نقلة نوعية في تفاعلاته التقنية وتخير عناصر موضوعاته المطروقة في المرحلة الحالية والمعايشة لأحزانه الموصولة بما يجري في سورية من دروب آلام آدمية مستمرة داخل أسوار الوطن الواحد من مآسٍ وشجون. تُقحمنا شئنا أم أبينا في دوحة أحلامه وأحلام العابرين إلى ذاكرة الأرض السورية والإنسان. وتأخذ من الحلة الدمشقية مفردة تشكيلية فارقة لبث همومه وومعاناته، مستحضراً دمشق القديمة بكل ما فيها من جماليات العمارة وهندسة البيوت الدمشقية الحبلى بعناق الأحبة مع الأمكنة الشاملة لجميع مكونات الحياة. تجمع في واحتها السردية النسوة والأزهار والأشجار، يرصفها في معانقة شكلية بيد العارف والخبير في ميدانه والتي حضنت تلك البيوت طفولته وشبابه، وساعدت في استحضار تدوين مختزل لما يجول في داخلها من أحاديث رجال ونسوة لا تنتهي في حدود قراءة فنجان. يمر فيها على النوافذ المُشرعة لأشعة الشمس، ولفسحة شكلية هاربة من قمر نيسان الحزين.  شكلت ملونات التناقض الأزلي ( الأسود والأبيض) الموزعة فوق سطوح لوحاته ما بين غزير الخطوط والمساحات السود المعانقة لنصاعة البياض، والموشاة بقليل من رمزية الأصفر ودلالاته الأيقونية المدرجة في حلة وصفية عاكسة لروحه ومناطق تفكيره، وانفعالاته الذاتية الحاضنة لحزنه القديم المتجدد، وكأنه يتقمص دثار المسيح الدمشقي، كراوٍ يسعى لبث شجونه ومحبته لموطنه سورية وعروسها دمشق المدينة القديمة، واستكمال ما بقي من فصول مأساتها المعيشة في زمننا العربي الرديء.

العدد 1102 - 03/4/2024