بضعة أفكار في حوار لا ينتهي!

النص الكامل للمداخلة التي قدمها الأمين العام للحزب الشيوعي السوري (الموحد) الرفيق حنين نمر، في الندوة التي عقدت يومَيْ الثلاثاء والأربعاء (17-18/9/2012)، بدعوة من اتحاد الكتّاب العرب بعنوان (المثقفون العرب والأزمة السورية- أفكار وحلول).

حاولت جاهداً أن أمسك بأحد المحاور المقترحة، وأمعن فيه تعميقاً وشرحاً، لكنني وجدت أن كل المحاور مفتوحة نوافذها بعضها على بعض، وهي تشكل وحدة متكاملة وموضوعاً واحداً لا يقبل التجزئة.. والشكر موصول في جميع الأحوال إلى اتحاد الكتاب العرب الذي يسعى جاهداً ليؤدي دوره المنوط به في خدمة القضية العربية.. وسأقدم بعض الأفكار الموجزة التي أعتقد أنها قضايا مثار جدل، والتي استفزتها الأزمة السورية وساعدت على إبرازها أكثر من غيرها، وهي تشكل أيضاً تحدّياً لكل المثقفين العرب، ومطلوب منهم بذل كل الجهود لتوضيحها والاتفاق على رؤية واحدة أو متقاربة حولها.

يتساءل كثيرون عن سر هذا الزمان الذي أصبح فيه مثقفون يوصف بعضهم بأنهم (يساريون)، يتسابقون على استدعاء القوات الأجنبية، لا بل إن بعضهم (وهذا موثّق) يشتم الولايات المتحدة وإداراتها (الفاشلة) و(الضعيفة) و(المترددة)، لا لأنها تساند المجموعات الإرهابية المسلحة وتفتح أراضي تركيا لتصبح منطلقاً لتسلل المرتزقة الوافدين إلينا من أنحاء الأرض لقتل أطفالنا وتدمير ما عُمّر منذ عقود من الزمن، بل لأنها لا تقوم بذلك، أي بمهمة التدمير الشامل لسورية، أي أن سوريين يستصرخون ضمير الولايات المتحدة لكي تقصف بلدهم سورية! وإذا عممنا هذا الرأي على بعض الأوساط التي تفلسف مثل هذا الأمر وتضع فوقه رداء أيديولوجياً، تشكلت لدينا صورة أوضح عن مدى تغلغل الفكر النيوليبرالي المشوه، والمرافق لنشوء النيوليبرالية وتطورها، والأساليب والأطروحات الخبيثة التي يسوقها.. وتحاول هذه المجموعات تفسير الأمر على أنه رد فعل عفوي على ممارسات الأنظمة القمعية، وشكل من أشكال الغضب الشعبي الصامت عليها في ظل غياب مؤسسات ديمقراطية تحكم البلاد.

نحن هنا لا نريد أن نغوص في الرد على مثل هذه الإجابة المسطحة، لأن بحث ذلك يجب أن يكون موضوعاً مستقلاً بذاته وقابلاً للنقاش الموسع، لكننا نعتقد أن ثقافة العولمة بالمفهوم الإمبريالي تقوم على مبدأ اعتبار العالم كله سوقاً اقتصادية واحدة، ولا وجود للدول المستقلة وللحواجز والحدود فيما بينها.. وهنا يزول مبدأ الدول الوطنية المستقلة، وينصهر العالم كله في بوتقة واحدة، بالطبع في ظل هيمنة الدولة الأقوى.

لقد وصل ا بعضهم إلى فكرة نهاية حركة التحرر الوطني العربية، وأن هذه الحركة لم تعد موجودة ولا مبرر لاستمرارها مادام لا يوجد فرق بين دولة وأخرى، دولة محتلة أراضيها ودولة تحتل أراضي الغير.. فتعالوا نغض الطرف عن احتلال الجولان وفلسطين كلها، وننهي هذه (المزايدة)، ونبني الدولة الديمقراطية الحديثة!

من هنا يجب أن نلاحظ، أيتها الأخوات والإخوة، أننا لا نقرأ ولا نسمع كلمة واحدة من هؤلاء عن القضية الوطنية، وكأن الصراع العربي الإسرائيلي قد انتهى، وكأن الشعب الفلسطيني قد استعاد أرضه، وكأن الجولان قد عاد إلى سورية، وكأنه لا يوجد كيان إسرائيلي وظيفته الاغتصاب وحماية المصالح الإمبريالية.

وفي جميع الأحوال فإن تخصيص ندوة لدراسة أثر الفكر المنبعث من العولمة على مصير الدول الوطنية، يبقى أمراً مطلوباً.. الشيء ذاته تقريباً ينطبق على موقف هؤلاء من العلاقة بين الديمقراطية وبين الوطنية والتقدمية.

لقد تكلمنا قبل قليل عن هذا الاغتيال المروّع الذي يقوم به البعض للمسألة الوطنية باسم الديمقراطية، لكن الشيء ذاته يتكرر تقريباً فيما يتعلق بالمسألة الاجتماعية. فهم يعزلون مسألة الديمقراطية عن باقي المسائل عزلاً مطلقاً، دون أن يقولوا لنا ما هو التوجه الاقتصادي والاجتماعي الذي سنسير عليه، هل سيبقى القطاع العام والمؤسسات والشركات العامة بيد الدولة؟ هل سيبقى الإصلاح الزراعي أم ستعاد الأراضي إلى الإقطاعيين والملاكين الكبار، كما يطالب البعض الآن؟ وهل سنخضع لوصفات صناديق النقد الدولية، ونندمج بالاقتصاد الرأسمالي العالمي ونصبح تابعين له، وهذه كلها مسائل لا يحلها حديث غامض وفضفاض عن الديمقراطية.. فالعمال والفلاحون والمثقفون يريدون الخبز كما يريدون الحرية، ويريدون العدالة الاجتماعية كما يريدون الديمقراطية. وصناديق الاقتراع ليست هي كل شيء، إذا جُردت من محتواها الوطني والتقدمي.

لقد بدأت بالظهور منذ عدة عقود بوادر تراجع في الميدان الاجتماعي لصالح قوى الرأسمال الطفيلي المدعوم من أوساط نافذة في السلطة، مما ساعد على اتساع دائرة الاحتجاجات التي تحولت إلى تجييش مسلح فيما بعد، لذلك فإن هذه الطبقات الكادحة لن تسمح بنقل السلطة إلى من نهبها في الماضي، ويريد أن يواصل نهبها في المستقبل.

إننا نريد الديمقراطية، لكنها الديمقراطية المرتبطة بأهداف بعيدة المدى ذات أفق تقدمي، ولا نريد التخلي عن الهدف الاشتراكي، حتى ولم نعد نعدّه الآن هدفاً مباشراً وآنياً، بل نريد الآن إنقاذ الاقتصاد الوطني من التخريب الذي لحق به، نتيجة من العقوبات الاقتصادية الاستعمارية والمجموعات المسلحة من الداخل.

وباختصار فإن العلاقة الثلاثية الأبعاد التي يؤكدها حزبنا، وهي العلاقة بين الوطني والتقدمي والديمقراطي، والتفاعل بينها، هي ما نقترح أن يكون موضوع بحث أشمل من الكتّاب والسياسيين.

أيتها الأخوات، أيها الإخوة!

لقد وصل الاقتتال الداخلي المسلح إلى حد تجاوز المألوف، الدم السوري يُسفك بلا رحمة، والتمثيل بالجثث يجري بشكل لا ينمّ عن أن الذين يقومون به هم بشر، وهناك بعض الفئات الاجتماعية التي عاشت فراغاً سياسياً خلال العقود الخمسة الأخيرة ولم تستطع الأطر والتنظيمات الشعبية والأحزاب أن تستوعبها قد لجأت إلى المؤسسات الدينية وجعلتها ملاذاً لها، وقد شُحنت بالتثقيف المتدين المتطرف لا بالثقافة الدينية السمحة.

وكان من أخطاء السلطة أن أفسحت في المجال لمثل هذه المؤسسات أن تعمل دون قيود ولا حدود، وتربى على أيديها جيل بعد جيل جنح نحو التطرف والظلامية والتكفير رويداً رويداً، بينما كان تعامل السلطة مع الأحزاب والقوى العلمانية تعاملاً حذراً يخشى من توسع نشاط القوى التقدمية أكثر من خشيته من توسع الفكر الظلامي.

وهذا الموضوع يستحق منا، كما أعتقد، عقد ندوة خاصة أيضاً، وفي هذا الخِضَمّ أرجو أن نعد أنفسنا، أشخاصاً طبيعيين واعتباريين، مكرسين ومسخرين لهدف قد يبدو في بادئ الأمر أنه شيء مستحيل، لكن الأحداث علمتنا أن في عصر هيمنة القوى الإمبريالية ما من شيء مستحيل، وأقصد في كل ذلك الحيلولة دون تفتيت سورية ونسيجها، الذي إذا تمزق تمزقت معه أمة بكاملها، يزيد تعدادها على 300 مليون إنسان، والمحافظة على سورية يتم بالحفاظ على قوة جيشها الوطني، وتجنيبه الوقوع في أخطاء يمكن تجنبها، وتشجيع المصالحة الوطنية، وإشاعة روح التسامح ونبذ الثأرية والكيدية، والإسراع في عقد المؤتمر الوطني الشامل، والسير قدماً في طريق الحل السياسي.

وأخيراً يجب أن يشعر المواطنون أن شيئاً قد تغيّر في عقلية السلطة، وأن يتأكدوا أن التغيير الديمقراطي السلمي آت لا محالة.

18/9/2012

الأمين العام للحزب الشيوعي السوري (الموحد)

حنين نمر

 

العدد 1104 - 24/4/2024