الولايات المتحدة.. سجل إجرامي حافل مازال مستمراً
لعل السمة التي رافقت تشكّل الولايات المتحدة دولة على الجغرافية، والتي قامت على أشلاء الهنود الحمر بفظاعة ووحشية لم يشهدها التاريخ سوى على يد إسرائيل ضدّ الفلسطينيين، قد طبعت المزاج السلطوي الأمريكي بطابعها الدموي الذي ما زالت تتصف به إلى يومنا هذا. فلا يكاد يمر عقد من الزمن إلاّ وتشن حرباً قاسية ووحشية على شعب دولة ما، بحجج وذرائع تخلقها في مخيلتها تلك السمة الدموية. كما أن العديد من الرؤساء الأمريكيين استخدموا الحروب ورقةً انتخابية أمام شعبهم، في طريقة لإبراز القوة العسكرية والشخصية لهذا الرئيس أو ذاك. لكن في المقابل كانت نتائج هذه الحروب على الشعب الأمريكي حجر عثرة في طريق هؤلاء الرؤساء أثناء الحملات الانتخابية لما جرّته عليهم من ويلات، كان آخرها في عهد بوش الابن. فقد أشارت استطلاعات الرأي إلى تناقص التأييد الشعبي له مع اقتراب انتخابات عام ،2004 ويرجع ذلك في جزء منه إلى مخاوف الجماهير من الدائرة الفتاكة لهجمات رجال المقاومة والتفجيرات الانتحارية في العراق.
ومن أفظع الجرائم التي ارتكبتها الولايات المتحدة في التاريخ، وما زالت آثارها مستمرة حتى يومنا هذا، هو هجومها على اليابان بالقنابل النووية التي ألقتها على كل من هيروشيما وناغازاكي، عندما جعلتهما حقلاً لتجاربها النووية. ويقدّر المحللون عدد ضحايا اليابان بما يُقارب مليون وخمسمئة ألف إنسان. أما من بقي من اليابانيين في هاتين المدينتين فما زالوا حتى اليوم ينجبون أطفالاً مشوهين نتيجة تلك القنابل.
تلا ذلك عدوانها على فيتنام في ستينيات القرن الماضي، إذ ارتفع عدد الضحايا الأمريكيين في فيتنام إلى 1926 قتيلاً في عام ،1965 وإلى 869,16 قتيلاً في عام ،1968 أما حصيلة ما خسره الفيتناميون في تلك الحرب فكانت مليونَيْ قتيل وثلاثة ملايين جريح، إضافة إلى ما يُناهز12 مليون لاجئ.
فالولايات المتحدة عندما تتغنى بالديمقراطية وحقوق الإنسان، متذرعة بضرورة وجودها في الدول المستهدفة، إضافة إلى سعيها المزعوم، إلى انتشار أسلحة الدمار الشامل في العالم، ما هي إلاّ ذرائع واهية تستند إليها أثناء التحضير للعدوان على دولة ما. وهذا ما حصل أثناء غزوها للعراق في تسعينيات القرن الماضي وأوائل القرن الحالي، عندما ضربت التجمعات السكنية بقنابل ما زالت آثارها السرطانية باقية ومستمرة الظهور في الأجيال اللاحقة، تماماً كما حصل في اليابان.
فلقد فقد العراق ما يقرب المليون من مواطنيه منذ اقتحام القوات الأمريكية للعاصمة بغداد عام،2003 ثم شهدت السنوات التالية للاحتلال سقوط ما يقرب من 800 ألف مدني في الأعوام الأولى. فلقد نشرت مجلَّة (لانسيت) الطبية عام2006 دراسة قدَّرت عدد العراقيين الذين قضوا بسبب الحرب ب965,654 قتيلاً، منهم 027,601 قُتلوا نتيجة أعمال العنف في البلاد.
بينما قدرت دراسة لجامعة جونز هوبكنز الأمريكية عدد الضحايا المدنيين في العراق ب655 ألفاً، فيما قدرت المصادر نفسها ضحايا الحرب الأمريكية على أفغانستان بما يزيد على150 ألف قتيل، كما كانت حصيلة الحرب على ليبيا أثناء محاولة الإطاحة بنظام القذافي ما يُقارب ال80 ألف بين قتيل ومُصاب.
وقد فضح تقرير لمنظمة (أوكسفام) الخيرية البريطانية الجريمة التي ارتكبتها قوات الاحتلال الغربي في كل من العراق وأفغانستان ضد الأطفال والنساء والشيوخ، إذ بلغت نسبة الضحايا من النساء والأطفال في الحرب الجوية الأمريكية 85% من مجموع ضحايا هذه المجزرة المستمرة.. كما أشار تحليل أجرته IBC، إلى أن 39% من هؤلاء الضحايا المدنيين بفعل القصف الجوي الأمريكي هم من الأطفال، مقابل 46% من النساء. وأشار هذا التحليل إلى أن القانون الإنساني العالمي (متضمناً معاهدات جنيف) ينص على تحريم القصف الجوي على مناطق آهلة بالسكان المدنيين، ما لم يتبين بوضوح اتخاذ إجراءات لحماية المدنيين في سياق وجود رقابة فاحصة عن بعد. ولعل سقوط هذا العدد الكبير من الضحايا المدنيين الأبرياء في جميع الدول المستهدفة يلقي الضوء على عدد من التعقيدات، منها زيف الدعاية الغربية حول دقة وقوة أجهزة الرصد داخل طائراتها وقاذفاتها، بل يكشف زيف ما يدعونه من استخدام قنابل ذكية تتفادى المدنيين ومنازلهم، وهو ما أكدت زيفه التجربة الأمريكية والغربية في العراق وأفغانستان.
إن معاناة النساء في تلك البلدان تؤكّد هدف الإمبريالية الأمريكية في سعيها الدائم لاستغلال تلك الشعوب على جميع الأصعدة، فلقد تعرضت المرأة إلى صنوف متعددة من الاستغلال والعذاب. إذ فقدت في غالب الأحيان المعيل الأساسي لأسرتها (الرجل/ الزوج)، كما فقدت عملها، مما دفعها مرغمة للعمل في قطاعات متدنية لا تليق بها وبإنسانيتها. إضافة إلى استغلالها في تجارة الرقيق الأبيض الرائجة في بلدان أوربا والخليج العربي ضمن شبكات دولية تقودها شركات عابرة للقارات. ولا يفوتنا حجم معاناة الطفولة أيضاً التي حُرمت من أبسط مقومات الحياة الطبيعية التي تؤكّدها اتفاقية حقوق الطفل. فقد انتشرت الأمراض القاتلة بينهم، وحُرم العديد منهم من الالتحاق بالمدارس بسبب الدمار الذي لحق بالبُنى التحتية. إضافة إلى تجنيد أعداد ليست بالقليلة من أطفال الدول المستهدفة في الأعمال العسكرية، عدا مقتل العديد منهم.
إن كل هذا مخالف للأعراف والاتفاقيات الدولية، وبالتالي يكون هدف الولايات المتحدة من هذه الحروب ضدّ المدنيين هو سعيها لإحباط أي مساع لاستعادة هذه الدول عافيتها، بل إنها تسعى لإنهاك النسيج الاجتماعي في هذه الدول، وإشعال صراع بين شعوبها وحكوماتها كي يتسنى لها السطو على مقدراتها. وهذا ما تريده من العدوان الذي تُحضّر له على سورية، بعدما أنهكتها الأزمة المستعصية في البلاد منذ ما يُقارب الثلاث سنوات. وذلك من أجل إضعاف قدرتها العسكرية، بعدما عملت مع أنصارها على إضعافها اقتصادياً واجتماعياً عبر العقوبات الدولية التي فرضتها على سورية، في هدف مضمر هو القضاء على القدرة العسكرية للدول المجاورة لإسرائيل في المنطقة، وقد كان العراق أولاً، والآن سورية، وغداً ربما تكون مصر.
إن الولايات المتحدة بجلالة قدرها وديمقراطيتها هي المسؤولة عن هذه الأرقام المخيفة والجرائم المرعبة بحق المدنيين في الدول المستهدفة، وهي بذلك تُخالف اتفاقيات جنيف والعهد الدولي لحقوق الإنسان الذي يحافظ على حقوق المدنيين وأرواحهم في زمن الحرب. كما يُخالف اتفاقيات حقوق الإنسان والطفل ومعاهدة رفع العنف والتمييز عن المرأة (سيداو). وهذا ما يجعل من العدوان الأمريكي جريمة مكتملة الأركان، مما يُرتّب على الحكومات المعنية ومنظمات المجتمع المدني في تلك الدول توثيقها وتقديم حكام واشنطن للمحاكمة أمام المحافل الدولية لمحاسبة مرتكبي هذه الفظائع من المسؤولين الأمريكيين.