الدين والسياسة

علينا أن نعترف أولاً أن الدين من أهم المؤثرات في الإنسان، رافقه منذ بدايات دبيبه على هذه الأرض، قبل التاريخ المدون بآلاف السنين، وكان العامل الرئيس في حفظ التراث والخبرات الإنسانية ونقلها من الأجداد إلى الأحفاد عبر الأساطير والطقوس، كما أنه ساهم في تكوين الضمير الإنساني واللاوعي الجمعي للبشر، لكن المساهمة الأهم كانت في صياغة إدراك الإنسان لذاته، وعلاقته بالآخر، ثم علاقته بالوجود، هذا الإدراك الذي كان وما زال الشرط الرئيس لتوازن الإنسان النفسي، وقدرته على التفاعل والحراك الاجتماعي.

لقد حل الإنسان، بالدين، إشكالية الوجود والعدم، بنفي العدم، واعتبار الموت شكلاً آخر من أشكال الحياة الخالدة، كما قيد علاقة الإنسان بالآخر بالمسؤولية بعد الموت، ليجنبه الشعور الساحق بالظلم، كما نفى المصادفة، ليجنبه الإحساس بالعبثية واللاجدوى، ثم ربط روح الإنسان بالمطلق الأخلاقي والوجودي ليمنحه الاحترام والأهمية والأمان. ورغم أن الدين لم يبرهن على موضوعاته الأساسية تلك بالشكل العلمي المتعارف عليه، إلا أن البرهنة على عكسها هي بصعوبة البرهنة عليها، ويبقى خيار الإيمان بموضوعاته تلك، خياراً حراً خالصاً لا يمكن لأحد أن يفرضه على أحد، تقول الآية الكريمة: (فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، إنا أعتدنا للظالمين ناراً..). إلا أن خلاف المؤمنين مع غيرهم على ما سيحدث بعد الموت، يجب أن لا ينفي إمكانية اتفاقهم على ما يجب أن يحدث في الحياة، فهم مضطرون جميعاً للعيش في ظل مجتمع واحد تتشابك فيه المصالح والإرادات، ولابد لهم من الاتفاق على ضوابط للعيش المشترك، تتحقق بها إمكانية العيش الكريم للجميع. ورغم أن بروز العلمانية وترسخها عبر الإنجازات العلمية الكثيرة، قلصت من مساهمة الدين في صياغة إدراك الإنسان الحديث، إلا أنه بقي العامل الأهم في تلك الصياغة، حتى عند من لا يؤمنون بموضوعاته الأساسية، فالكثير من محرماته انتقلت إلى المقياس الأخلاقي البشري العام، وما زالت راسخةً في نفوس البشر، كالقتل وزواج المحارم وغير ذلك.

إن رفض الدين ككل هو تجاهل ساذج لخبرة إنسانية عميقة الجذور، ترسخت في الوجدان البشري منذ أزمان سحيقة في القدم، وتركت بصماتها في عمق الضمير الإنساني بشكل لا يمكن تجاوزه بسهولة ودون خلل ما، ولكن!..

لقد أدرك السياسيون والحكام، منذ أمد بعيد، أهمية الدين وتأثيره في الإنسان، ومن هنا نشأ التحالف الأول بين رئيس القبيلة وعرّافها أو ساحرها، ثم تطور هذا التحالف على مدى الأزمان إلى محاولات لتطويع الإيديولوجية الدينية لتخدم الحكام أو الطبقة المهيمنة على السلطة، وهنا نشأت المشكلة التي أتحدث عنها، ومن هنا قال ماركس (الدين أفيون الشعوب)، ومن الواضح أن المقصود هو استخدام الطبقات السائدة للدين وتطويعه للسيطرة على الشعوب وإخضاعها لإرادتهم ومصالحهم، وقد حدث ذلك في جميع الأديان وكل الحضارات دون استثناء. لكن ماركس لم يرفض مقولات الدين الأساسية، فهو لم يتكلم عنها على الإطلاق، والتصحيح الذي قام به لمنهج هيغل، بعكس اتجاهه، كان المقصود به هو اعتماد منهج لتحليل الظواهر يستند إلى مقدماتها الموضوعية لا إلى تفسيرات غيبية.

وهكذا نجد أن كل اتجاه سياسي حاول أن يدعم مواقفه وآراءه بالحجج الشرعية، ومع الزمن أصبح لكل منها فكر ومنهج نظري متكامل بنت عليه مواقفها واجتهاداتها اللاحقة، ليس فقط في المسائل السياسية، ولكن في المسائل العقائدية والفقهية أيضاً، وأصبحت هذه الآراء والأصول النظرية تمثل إيديولوجيا أو برنامجاً عاماً للحزب. إن التحول الذي طرأ على نظام الحكم الإسلامي بعد عام 40 للهجرة، من نظام خلافة ذي طابع استشاري يسمح بالتعدد والاختلاف، إلى نظام فردي مستبد، في عهد معاوية، انعكس على بنية المجتمع وفكره، فتقلصت مساحة حرية الرأي تدريجياً حتى ألغيت تماماً بإغلاق باب الاجتهاد، وترتّب على ذلك تزايد حدة الصراع بين مختلف الفرق، فتبادلت الاتهامات وكفّر كل منها بقية الفرق، ومع الزمن وقعت كلها في مأزق الفردية والتعصب الأعمى ونرجسية الحزب الواحد ورفض الآخر، لدرجة تكفيره وإخراجه عن الدين، وأفقدهم ذلك القدرة على النقد الموضوعي، وتدريجياً تراجع دور العقل والتفكير الحر السليم، وانتهى الأمر بهم إلى القبول المسبق بكل ما يتفق مع وجهة نظر حزبهم وفرقتهم ومذهبهم، والرفض المسبق لآراء الفرق الأخرى، مع أن هذا الموقف يتناقض مع جوهر الموقف الإسلامي من الآخر، فالآية الكريمة تقول: (وخلقناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، وفي هذا إقرار صريح بالتنوع والاختلاف، وحضّ على موقف إيجابي من الآخر يتضح في كلمة (لتعارفوا)، كما أن التعصب الأعمى يخالف السنّة الشريفة أيضاً، كما تبين السيرة النبوية في تعامل النبي الكريم مع جاره اليهودي.

كان الخوارج أول من شهر سلاح التكفير في وجه الآخرين، فكفروا الإمام علي عند خروجهم عليه في صفّين، لعدم استجابته لرأيهم في الرجوع عن التحكيم، ثم استخدموه في وجه السلطة الأموية بعد اغتيالهم للإمام، وبعد ذلك ضد كل من خالفهم الرأي، فأدى بهم ذلك إلى تكفير الأمة الإسلامية كلها، واعتبار أنفسهم الجماعة الوحيدة المؤمنة التي هي على الحق، ثم تفشت هذه الطريقة في التفكير بين بقية الفرق والاتجاهات الأخرى، وطبعت بطابعها كل الصراعات الفكرية والسياسية فيما بعد، وحتى يومنا الحاضر، هناك بعض المتطرفين الذين يطرحون هذا الطرح مدمّرين بذلك كل إمكانات الحوار بين الأطراف المختلفة، مغلقين آفاق تطور الفكر، مسلّمين إياه إلى صحراء العقم والإجداب.

والأمر ليس مقصوراً على الدين الإسلامي فقط، فالدين المسيحي لم ينجُ من السياسة وألاعيبها أيضاً، وفي تاريخ الكنيسة أمثلةً كثيرة على استخدام الدين المسيحي لأغراض سياسية ولصالح الطبقات الحاكمة، كانت إحداها الحروب الصليبية، مع أن روح التصوف والمحبة في الدين المسيحي تتناقض تماماً مع فكرة رفض الآخر حتى ولو كان عدواً، ومقالة السيد المسيح الشهيرة (من ضربك على خدك الأيمن، فأدر له الأيسر) تبرز ما في الدين المسيحي من تسامح ومحبة وحرص على العلاقة مع الآخر، ومع ذلك فالمجازر التي ارتكبت باسم الدين المسيحي أزهقت أرواح ألوف البشر.

والاستعمار الإنكليزي ثم الأمريكي فيما بعد استخدم الدين المسيحي خاصة العهد القديم، لتبرير توسعهم الاستعماري ومحاولات فرض هيمنتهم على العالم، وفي دراسة بعنوان ( إمبراطورية الله) من منشورات المركز العربي للدراسات الاستراتيجية، يسلط فيها الباحث العربي السوري د.منير العكش الضوء على الأصول الفكرية للرئيس بوش، يورد خطاباً للسيناتور الأمريكي ألبرت بيفرج ألقاه أمام الكونجرس عشية احتلال أمريكا للفيليبين في بدايات القرن الماضي، قال فيه: (ما جعلنا الله شعبه المختار إلا لكي نعيد صياغة العالم، ولا شك أن ضمّنا للفيليبين سيوفر للجمهورية الأمريكية هيمنة مطلقة وأبدية في المحيط الهادئ والشرق..) إلى أن يقول: (وعهداً مع الله لن نتخلى عن هذه الرسالة التي وضعها الله في أعناقنا نحن الجنس الوصي على حضارة العالم)، وخطاب بيفرج هذا يعبر تعبيراً صادقاً عن فكر الرئيس الأمريكي الحالي بوش، كما يقول الكاتبان روبرت جويت وجون لورنس في مؤلفهما (كابتن أمريكا)، ويذكران فيه أن بوش يدّعي أن الله كلمه كما كلم موسى عليه السلام وأمره بتحرير العراق، ويعتقد الكاتبان أن قناعة الرئيس بوش بأن العنف هو الوسيلة الوحيدة لإعادة صياغة العالم منسجمة مع تاريخ تأسيس أمريكا ومستمدة من سفر (الرؤيا) في العهد القديم.

وقد ذكر بوش في كتابه عن نفسه (رحلتي إلى البيت الأبيض) كيف أن لشخصية النبي موسى أثراً كبيراً في قناعاته الدينية وقيادته السياسية، وأن نداء الله جاءه في أوستن على شكل معجزات وهو يستمع إلى الواعظ مارك كريغ، فأحس بأنه يخاطب قلبه وعقله، كانكشاف الشمس من وراء السحب بينما كان يؤدي اليمين لتولي حاكمية ولاية تكساس تعبيراً عن مباركة السماء، وقد تندرت مجلة التايمز في العدد (10 شباط 2003) على تصورات بوش تلك عندما نشرت رسماً كاريكاتيرياً لبوش على شكل موسى عصري يحمل الألواح وقد كتب عليها (وصايا الضرائب). إن إفلاس الإمبريالية الأمريكية الفكري والأيديولوجي جعلها تعيد إنتاج الفكر الاستعماري القديم وتسويقه، بعد أن ولى زمانه. والصهيونية.. أليست مثالاً فاقعاً على استخدام الدين اليهودي واليهود لأغراضها السياسية ومصالحها الاقتصادية.

للدين وجهان، الأول: الدين كموقف فكري فلسفي إيماني من الحياة والوجود، الإيمان به أو رفضه حق مشروع لكل البشر  أقرت به وثيقة حقوق الإنسان عندما أقرت بحرية المعتقد، كما أقر به القرآن الكريم، تقول الآية الكريمة: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي). وتنبع مشروعية هذا الحق من مسؤولية حرية الاختيار التي هي أساس فكرة الحساب في الحياة الآخرة.

أما الوجه الآخر فهو الوجه الاجتماعي للدين، أي كيفية فهم الإنسان له وتطبيقه، والعلاقة الجدلية بين الوجهين هي التي طورت النظام المفهومي الديني عبر الأجيال، ولكن في مصلحة الطبقات الاجتماعية السائدة، أثناء الحكم الأموي ثم العباسي ثم العثماني، عندما كان النظام الاقتصادي الاجتماعي نظاماً خراجياً يشكل الرق جزءاً هاماً فيه، فأقصيت أو حرفت مفاهيم كثيرة مثل: المساواة  الشورى  حق إبداء الرأي  الملكية الاجتماعية لموارد الدولة  دور الدولة الاجتماعي  التكافل الاجتماعي. مثل هذه المفاهيم التي لم تتطور من خلال مؤسسات اجتماعية سياسية في أنظمة الحكم المتعاقبة، وبقيت مفاهيم مجردة ذكرتها بعض الآيات والأحاديث، وارتبط تطبيقها بمزاج الخلفاء وأولي الأمر ودرجة تدينهم، مما جعل تطبيقها هو الاستثناء وليس القاعدة في التاريخ الإسلامي.

إن إعادة قراءة الدين والتراث قراءة علمية جديدة تتيح لنا إمكانية تطوير الخطاب الديني، وأنا لا أرى تناقضاً بين الفكر الاشتراكي وجوهر الفكر الديني وموضوعاته الرئيسة المسيحية منها أو الإسلامية، لما تتضمنه من روح المساواة والعدل ورفض الظلم والإرهاب واضطهاد الآخرين، بل على العكس أرى بينهما انسجاماً يقابله تناقض جوهري مع الفكر الرأسمالي.

ويجب أن لا ننسى أن هناك حركات دينية ذات مواقف وطنية، ناضلت ضد الإمبريالية الأمريكية وكان بعضها حليفاً لحركات التحرر، وتذكرون الرهبان البوذيين في أوائل السبعينات الذين أحرقوا أنفسهم في ساحات سايغون أمام عدسات التلفزيون، ونقلوا بذلك قضية بلادهم ونضالها ضد الاحتلال الأمريكي إلى الرأي العام العالمي، وكذلك بعض الكنائس الكاثوليكية في أمريكا اللاتينية التي تعاون رهبانها مع حركات اليسار وناضلوا معاً ضد الدكتاتوريات العسكرية العميلة لأمريكا فيما سمي (لاهوت التحرير)، والثورة الإيرانية التي اقتلعت نظام الشاه الذي كان إحدى ركائز الإمبريالية في المنطقة، وحزب الله وحربه الوطنية ضد الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان، والحركات الإسلامية التي تناضل في فلسطين، إن النضال ضد الاحتلال وعملاء الإمبريالية من أجل وطن حر مستقل هي مهمة كل المواطنين ومن كل فئات الشعب وأديانهم وطوائفهم، فالدين لله والوطن للجميع، والعدو الحقيقي للشعوب هي الإمبريالية وأعوانها وأدواتها، مهما كان اللبوس الذي تلبسه، ونحن مع الشرفاء الذين يقاومونها من كل الفئات والشعوب والديانات والأجناس.

العدد 1102 - 03/4/2024