رداً على التهديدات الأمريكية بعزلها دولياً.. روسيا تؤكد وقوفها في الصف الأمامي لصنّاع القرار العالمي

الإدارة الأمريكية التي سقطت مخططاتها عند العتبات السورية، تحاول إنقاذ مايمكن إنقاذه من ماء وجهها في أوكرانيا، انتقاماً لنفسها من روسيا بسبب موقفها الداعم لسورية من جهة، ومن جهة ثانية معاودة العمل من أجل جعل الساحة الأوكرانية ملعباً لقوات (الناتو) الأطلسية في المناطق المتاخمة لروسيا من جهة الغرب، على غرار مافعلته في جورجيا وأذربيجان وتركمانستان المتاخمة للشرق الروسي، في إطار الدرع الصاروخية الأمريكية التي مازالت واشنطن تحلم من خلال زرعها حول الأراضي الروسية، بإحكام الحصار على روسيا في محاولة يائسة لعزلها، وخاصة بعد أن شعرت الإدارة الأمريكية بأن المياه الروسية بدأت تجري من تحتها، وأن روسيا الناهضة باندفاعة صاروخية في الساحة الدولية، أشبه باندفاعة الصواريخ الروسية العابرة للفضاء الكوني حاملة مركبات سايوز، بدأت تسحب البساط من تحت الولايات المتحدة التي ماتزال تعيش أوهام سيادتها للعالم من دون منازع.

في ظل هذا المناخ الدولي القائم على صفيح ساخن بسبب الغطرسة الأمريكية، قوبلت الإدارة الأمريكية بصفعات قوية من أقصى شرق العالم المتمثل بالصين الشعبية وكوريا الديمقراطية، إلى أقصى غربه المتمثل ببلدان أمريكا اللاتينية التي تتحول بسرعة متنامية من حديقة خلفية غناء للولايات المتحدة الأمريكية، إلى بركان يزلزل مخططات الرباعية الأمريكية السيئة الذكر المتمثلة بـ(البنتاغون) والـ (سي آي إي) و(المؤسسة الصناعية الحربية) و(التروستات الاحتكارية) تجاه العالم وقضايا شعوبه المشروعة، يضاف إلى ذلك ما أعلنه رئيس الأركان العامة للقوات المسلحة الروسية فاليري غيراسيموف من أن (الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها يقفون وراء الجزء الأكبر من النزاعات المسلحة الإقليمية)، مشيراً إلى أن واشنطن لاتستطيع قبول ظهور مراكز القوى الجديدة، وأنها تستخدم لذلك طائفة واسعة من الوسائل وبضمنها العقوبات ودعم القوى الموالية للغرب، مؤكداً من جانب آخر أن موسكو تتخذ الإجراءات الكفيلة بالرد على زيادة وجود قوات حلف شمال الأطلسي بالقرب من حدودها.

فالرئيس الأمريكي باراك أوباما مازال يتحدث عن عزل روسيا دولياً وخاصة بالنسبة لأوربا ومجموعة السبع الصناعية

ماحدا بوزير الحارجية الروسي سيرغي لافروف على الرد مذكراً بما أعلنه الرئيس فلاديمير بوتين من أنه مستحيل عزل بلد مثل روسيا، فيما اتهم المستشار الاقتصادي للرئيس بوتين سيرغي غلازييف، المسؤول عن العلاقات الروسية الأوكرانية، واشنطن بمحاولة إشعال صراع عسكري بين روسيا والدول الأوربية بسبب أوكرانيا بغية تحقيق مكاسب اقتصادية، لافتاً إلى دور الحروب التي شهدتها أوربا في خدمة الاقتصاد الأمريكي ووضع أمريكا العالمي، وإلى أن الولايات المتحدة ترفع الآن راية حرب في أوكرانيا بعد تدبير انقلاب سلّم رجالها السلطة فيها لاستخدامها فتيل تفجير ضد روسيا وأوربا، ما خلق فوضى متنامية في أوكرانيا تكتسب بشكل متزايد سمات كارثة عالمية، فقد يتدفق اللاجئون بمعدل ثلاثة آلاف لاجئ أوكراني في اليوم معظمهم من النساء والأطفال إلى مقاطعة روستوف الروسية،  ورأى غلازييف (أن أي حرب في أوربا سوف توفر مكاسب ضخمة لأمريكا في تعزيز نفوذها على الساحة السياسية الدولية وأن واشنطن متمسكة بهذا التقليد).

الرد الروسي على النوايا والمخططات الأمريكية، تمثل بالمضي قدماً في عملية تأسيس الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، فقد وقّع الرئيس بوتين مع نظيريه البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو والكازاخي نورسلطان نزاربايف مؤخراً، اتفاقية تأسيس هذا الاتحاد الذي تردد أن العديد من دول العالم بينها سورية وإيران والصين والهند وفيتنام والعراق ودول أخرى، وأرمينيا التي طلبت الانضمام إليه نظراً لما تحمله تلك الاتفاقية من معنى تاريخي وتفتح آفاقاً رحبة للدفع بالاقتصادات وزيادة رفاهية مواطني الدول الموقعة على الاتفاقية، إذا تم الأخذ بالحسبان أن الدول الثلاث تشكّل أكبر سوق موحدة في فضاء رابطة الدول المستقلة، باعتبارها تمتلك إمكانات صناعية وعلمية وتكنولوجية ضخمة وموارد طبيعية هائلة.

كما تمثل الرد الروسي بأن وجه الرئيس بوتين أكثر من رسالة مهمة إلى الغرب حين نعى النظام أحادي القطب معلناً بصراحةً متناهية وقوف روسيا في الصف الأمامي لصنّاع القرار العالمي، وتمثل أيضاً بتأكيد الوزير لافروف أن الغرب فضّل سياسته الرامية إلى احتواء روسيا على الفرصة التاريخية لإقامة أوربا كبرى، والدعوة إلى التركيز على النزاعات في الشرق الأوسط وجنوب آسيا، معرباً عن أسفه لأن هذه النزاعات الخطرة أصبحت أخيراً في ظل الأزمة الأوكرانية، مايستدعي استخلاص الدروس الصحيحة من تلك الأزمة، وبدء تنفيذ مبادئ الأمن المتساوي وغير القابل للتجزئة في منطقة أوربا والأطلسي، وتهيئة الظروف لإقامة فضاء اقتصادي وإنساني موحّد بين لشبونة وفلاديفوستوك، مؤكداً أن مساهمة الشعب الأوكراني في تجاوز أزمته تتطلب التراجع عن تشجيع النازية الجديدة ومعاداة الغير والنظرة الأوربية المتغطرسة لأوكرانيا.

في هذا السياق ترى موسكو أن الضمان الأفضل لوحدة أراضي أوكرانيا يتمثل في الحوار المباشر والشامل والصريح بين كييف وجميع المقاطعات الأوكرانية الأخرى، وهو أمر يتطلب حسب رئيس الحكومة الروسية ديميتري ميدفيدف تهدئة الوضع داخل أوكرانيا وتخفيف حدة التوتر ووقف توسع الحرب الأهلية في البلاد، واحترام مواقف سكان لوغانسك ودونيتسك وغيرهما من المناطق الأوكرانية، مايستدعي بالتالي من الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة تقديم ضمانات بعدم التدخل في شؤون أوكرانيا الداخلية، ووقف محاولة ضمها إلى حلف شمال الأطلسي، مع التذكير بأن الإدارة الروسية تضع شروطاً محددة وواضحة لحل الأزمة الأوكرانية أهمها: عدم التطرق لموضوع عودة شبه جزيرة القرم إلى وطنها الأم روسيا، ووقف العملية العسكرية ضد المناطق الجنوبية والشرقية الأوكرانية وبدء الحوار معها، وتحويل أوكرانيا إلى فيدرالية وإعلانها دولة مُحايدة ما يضمن عدم انضمامها إلى الحلف الأطلسي، وهي شروط وضعتها موسكو رداً على ما أعلنه الرئيس الأوكراني الجديد بوروشينكو الذي يؤيد صراحة انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوربي، من أن حل الأزمة الأوكرانية يستند إلى استمرار العملية العسكرية في جنوب شرق أوكرانيا وإلى عدم الاعتراف بضم القرم الى روسيا ورفض مبدأ (الفدرلة).

ثمة نقطة مهمة ربما تشكل رداً غير مباشر على نوايا واشنطن تجاه أوكرانيا، وهي نقطة تحمل دلالات كثيرة ينبغي وضعها في الاعتبار تطرق إليها الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو في حفل التوقيع على اتفاقية الاتحاد الاقتصادي الأوراسي في العاصمة الكازاخية (أستانا)، فقد ذكر أن أوكرانيا لن تكون خارج هذا الاتحاد، ما يعني أن أوكرانيا قد تجد مكانها في الاتحاد خلال ثلاث إلى خمس سنوات بعد التخلص من آثار الأحداث الحالية، وما يعنيه ذلك من استحالة ضم أوكرانيا إلى حلف الناتو والاتحاد الأوربي وشطب احتمال تحقيقه.

مؤشرات عدة مصدرها ساحات آسيا وأوربا وأمريكا اللاتينية، باتت تشكل هاجساً مقلقاً لصناع القرار الأمريكي بشأن مستقبل السياسة الأمريكية الخاصة بما وراء البحار، ماحدا بالإدارة الأمريكية إلى افتعال الأزمات في الشرق الأوربي حيث الأزمة الأوكرانية، في ضوء سعي واشنطن لتحقيق مكاسب سياسية في المسألة الأوكرانية قبل حلول الشتاء القادم، حين حيث تزداد الحاجة الأوربية للغاز، وكذلك الشرق الآسيوي حيث تعترض واشنطن على إقامة الصين منطقة دفاع جوي صينية فوق بحر الصين الشرقي، بينما تبدو تلك الإدارة عاجزة حتى الآن عن افتعال أزمات مماثلة في قارة أمريكا اللاتينية، في ضوء الحراك السياسي الرسمي والشعبي الذي تشهده بلدان تلك القارة وخاصة بلدان منظمة (الإلبا)، مع الأخذ بالحسبان عضوية البرازيل في (البريكس) وعزم الأرجنتين على الانضمام إلى هذه المنظومة في وقت يبدو أنه غير بعيد.

كل ذلك عبارة عن كُرات باتت الآن في الملعب الأمريكي، لمصلحة التعددية القطبية والنهوض الروسي والتفاهمات الدولية الجديدة التي لاتروق للولايات المتحدة وحلفائها، والمتمثلة بمنظمتي البريكس وشنغهاي، وأخيراً بالاتحاد الاقتصادي الأوراسي وآفاق توسيع فضائه الآسيوي والأوربي، وما يعنيه ذلك موضوعياً من انحسار تدريجي للهيمنة الأمريكية في الساحة الدولية، ومن نعيٍ عملي للقطب الأمريكي الأحادي.

العدد 1102 - 03/4/2024