«قلب الظلمة» لجوزيف كونراد: رواية الاستعمار المرجعية بامتياز

إذا كان الراحل إدوارد سعيد قد وجد كثراً يساجلونه، وغالباً عن حق، في كتاباته السياسية، ومنها خاصة كتابه (المؤدلج) (الاستشراق)، فإن نوعاً من الإجماع كان يسود من حول كتاباته الأدبية النقدية والموسيقية بحيث اعتبر رائداً كبيراً من رواد النقد العالمي في القرن العشرين. وهو بهذه الصفة أفرد لجوزف كونراد أكثر من نص مهم رابطاً أدبه بالكولونيالية، ما جعل كتابة سعيد تعتبر في مقدمة النقد الأدبي ما بعد الكولونيالي. وبالطبع كانت رواية (قلب الظلمة) لكونراد في مركز القلب من نصوص سعيد في هذا المجال. ونعرف على أية حال أنه من جون فورد إلى أورسون ويلز، ومن جون بورمان إلى ستانلي كوبريك، حلم بعض كبار عباقرة الفن السابع في القرن العشرين، بأن يتمكن الواحد منهم يوماً من تحويل هذه الرواية الى فيلم سينمائي. بل كان من بينهم من كتب السيناريو فعلاً، كما كان من بينهم من أمّن جزءاً من الأموال اللازمة للإنتاج وبدأ يستعد لذلك فعلاً، حين وجد أموراً تحول بينه وبين تنفيذ حلمه. وهكذا، لعقود طويلة من السنين ظلت قضية (أفلمة) رواية جوزف كونراد هذه، واحداً من أكثر الأحلام السينمائية استحالة.

وظل الوضع على ذلك النحو حتى جاء فرانسيس فورد كوبولا، أواخر السبعينيات ليحقق الحلم، ولكن في شكل موارب: نقل أحداث الرواية من إفريقيا إلى جنوب شرقي آسيا (فيتنام تحديداً) وجعل الحرب الفيتنامية خلفية لتلك الأحداث. صحيح أن مناصري أدب كونراد الأنقياء استاؤوا من هذا، لكن كوبولا أكد لهم ولغيرهم مع هذا، أن نقل الرواية من مكان إلى آخر جاء تأكيداً لكونيتها، ولأن روحها تنفع لكل مكان وزمان. ولم يكن كوبولا بعيداً من الصواب في فرضيته هذه. ولذلك اعتبر الفيلم واحداً من أفضل النماذج في التعامل السينمائي مع نص أدبي كبير. والفيلم المعني هنا هو، بالطبع (يوم القيامة الآن) الذي اعتبر، بصرف النظر عن علاقته برواية كونراد، واحداً من أعظم الأفلام التي حققت عن الحرب الفيتنامية، بل واحداً من أفضل أفلام الحروب في تاريخ السينما.

وهنا، إذ نضع جانباً فيلم كوبولا، لا بد من أن نتساءل: ما الذي كان كل أولئك السينمائيين يرونه في نص (قلب الظلمة) عنصراً جذاباً لكي يُحوّل النص الى فيلم سينمائي؟ والجواب البديهي هو: كل شيء، البعد البصري والأحداث والبعد الروحي وقوة الشخصيات مجتمعة في بوتقة واحدة. ذلك ان (قلب الظلمة) تعتبر النموذج الأكمل لما ينبغي أن يكون عليه فن الرواية.

نشر جوزيف كونراد روايته هذه في عام ،1906 وكان على أبواب عامه الخمسين. وهو في (قلب الظلمة) كما في القسم الأعظم من رواياته السابقة عليها والتالية لها، عكس في العمل تجربته الشخصية، وهو بحار تنقل من بلد إلى آخر ومن قارة إلى أخرى، يعيش بنفسه مغامرات استثنائية، ويسمع بأذنيه أغرب الحكايات. وفي هذا الإطار تنتمي (قلب الظلمة) إلى ذلك العالم السحري: عالم الحكي الذي يرسم الشخصيات ويحكي المغامرات من دون أن يعرف حتى الراوي ما إذا كان الذي يرويه قد حدث حقاً، أو أنه بني حكائياً من خلال التواتر والتراكم.

تدور أحداث (قلب الظلمة) في قلب الأدغال الإفريقية، وبطلها هو البحار مارلو الذي يناديه، منذ طفولته نهر رأى صورته على خريطة لجزء من القارة الإفريقية، وسحره فيه غرائبه وكون مجراه يتخذ شكل أفعى تتسلل وسط الأدغال. لاحقاً حين يشب ذلك الفتى ويصير بحاراً، يتمكن من إقناع شركة تستغل أراضي تلك المنطقة الإفريقية بأن تسلمه قيادة مركب يتولى نقل العاج من قلب الأدغال إلى المرافئ عبر ذلك النهر. وهكذا عبر سلسلة من المغامرات والكوارث والكوابيس يتمكن مارلو من الوصول إلى حلم طفولته: قلب الأدغال الإفريقية، حيث مقر الشركة.. لكنه يجد الفوضى تعم المكان وأخلاق الناس، وسط صمت مريع يبدو وكأنه صمت انتظار شيء ما سيحدث لا محالة. وفي خضم ذلك يكتشف مارلو اختفاء كورتس، مندوب الشركة في المنطقة، فيواصل رحلته وسط بلاد العاج متطلعاً إلى العثور عليه. وهكذا، فيما مارلو على المركب يسير به فوق مياه النهر يتولد لديه إحساس بأنه بات خارج العالم وخارج الزمن، أو بالأحرى كأنه في سفر إلى بدء الخليقة. ومع هذا لا يفوته أن يجد في الصراخ البدائي الذي يطلقه السكان المحليون من حوله على جانبي النهر، ملامح إنسانية نقية تبدو (كحقيقة فرغت من كل ما هو دنيوي أو زمني). وفي نهاية الأمر يصل مارلو وصحبه إلى المكان الذي تبين لهم أن كورتس موجود فيه حقاً، فيواجههم ما يعتبرونه أروع كابوس واجهوه طوال رحلتهم: إن سكان المنطقة الأصليين، لا يريدون أبداً ان يسمحوا للبيض باستعادة كورتس، لأن هذا ليس أسيراً لديهم كما كان يخيل لبعضهم، بل إنه صار بالنسبة إليهم أشبه بالوثن المعبود، وهو ما كان أُخبر به مارلو سابقاً، لكنه آثر يومها ألا يصدقه. اما الآن فها هو ذا أمام الحقيقة الكابوسية. فما العمل؟ إن كورتس كان وصل على سجيته أصلاً الى هذا المكان متطلعاً إلى التبشير فيه بالدين المسيحي في أوساط السكان كفعل إيمان منه، لكنه وجد نفسه بدلاً من أن يضم السكان إليه، في معتقده، ينضم هو إليهم في معتقداتهم، بادئاً بمجاراتهم في رقص ليلي طقوسي وجد نفسه ينجرّ إليه طوعاً ومن دون أن يدرك أولاً أنه بهذا يخون الرسالة التي كان آلى على نفسه تأديتها. صحيح أنه، إذ تنبه لاحقاً إلى ما حدث له، حاول أن يهرب مرات ومرات، لكنه كان أحياناً يخفق، وفي أحيان أخرى يستنكف من تلقائه. لقد عاش صراعاً عنيفاً في داخله. أما الآن فإنه يائس تماماً، لم يعد يعرف من هو ولا ماذا يريد. إنه مريض ومنهك، بل على وشك أن يموت. لذلك يرفض ترك الغابة ومرافقة مارلو في رحلة العودة. غير أن هذا الأخير يتمكن من نقله إلى القارب بالقوة وسط سخط السكان المحليين ودعوات نسائهم. وإذ يموت كورتس في خضم ذلك كله، يعثر مارلو على حزمة رسائل بين متاعه، يتبين له أنها رسائل كتبها كورتس لخطيبته، لكنه لم يرسلها أبداً. وإذ يعود مارلو إلى الحضارة، يتطلع إلى لقاء الخطيبة وإعطائها الرسائل. لكنه إذ يجدها مغرمة بكورتس ولا تزال في انتظار عودته، يستنكف عن إخبارها بحقيقة أمر الرجل، مكتفياً بأن يؤكد لها أن كورتس مات وهو يلفظ اسمها.

تعتبر (قلب الظلمة) إلى جانب روايته الأخرى (لورد جيم) أشهر وأجمل ما كتب جوزيف كونراد (1857-1924) الكاتب الإنكليزي ذو الأصل البولندي، إذ إنه عبر فيها عن قوة رسمه، من ناحية، للطبيعة ولعلاقة الإنسان بها، ومن ناحية ثانية، للإنسان في عواطفه ومشاعره الخفية. ففي (قلب الظلمة) عرف كونراد كيف يرسم الطبيعة كشبكة من المشاعر التي تحيط بنا وتسيّر حركاتنا، وهي متمتعة بحياة خاصة بها، من الصعب ـن نجد في داخلنا قوة حقيقية للسيطرة عليها. وما كورتس هنا سوى دليل على سيطرة الطبيعة على الإنسان. وكونراد كان يعرف هذه العلاقة بين الإنسان والطبيعة، هو الذي عايش الأدغال والبحار منذ سن مبكرة. فهو بعد أن تيتّم بعد ولادته في أوكرانيا، وكان في العاشرة من عمره، وجد نفسه بسرعة على متن سفن تجارية بحاراً بين بحارتها. ثم أتيح له أن يصبح بحاراً على سفن تجارية إنكليزية، ما مكّنه في عام 1886 من الحصول على الجنسية البريطانية. وهو ظل يخوض غمار البحار حتى العام ،1894 فتقاعد منصرفاً إلى الكتابة، فأنجز حتى رحيله عام ،1924 ثلاثين كتاباً وصف في معظمها مغامراته في البلدان والبحار والقارات أو استوحاها بأسلوب غرائبي كان هو ما ساهم في تحقيق رواياته نجاحاً ما بعده نجاح. ومن أبرز أعماله، إلى ما ذكرنا: (الإعصار) و(في آخر اللفافة) وغيرها من أعمال كان هدف كونراد الدائم فيها البحث عن حقيقة الإنسان وعلاقته بالكون، ولكن في قالب روائي مشوّق دائماً.

 

عن «الحياة»

العدد 1102 - 03/4/2024