كتل جبلية كلسية ومدن منسية

تمتد بين محافظتي حلب وإدلب في شمال غربي سورية  كتلة من الجبال الكلسية، تغطي شعابها عدداً لا يحصى من المواقع الأثرية التي اصطلح على تسميتها (المدن المنسية) أو (القرى الأثرية) التي تشكل إرثاً من إحدى أغنى الفترات من تاريخ المنطقة الغني عبر عصوره كافة،  وظلت لقرون طويلة قابعة في نسيان مطبق، وهي تتوزع بين معابد وقلاع وكنائس وأديرة ومنازل ومعاصر وحمامات وخزانات وأبراج وأسوار وبرك وآبار وأسواق وساحات وفنادق صغيرة وصروح جنائزية تعكس تاريخاً لحضارات ما قبل الميلاد وتاريخاً مسيحياً مزدهراً في القرون الأولى لانتشار المسيحية في سورية الشمالية .

ولأهميتها سُجّلت هذه الأبنية الأثرية في عام 2011 على لائحة التراث العالمي للمنظمة العالمية للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو)، وقد شمل مشروع القرار إدراج ثمانية تجمعات من هذه القرى التي تمتد على مساحة تصل إلى نحو 130 كم،2 وتتضمن 36 قرية أثرية، ومجموعاً سكانياً يبلغ نحو 10آلاف نسمة ضمن لائحة التراث العالمي.

تتوزع هذه المواقع على كتلة الجبال على منطقة واسعة بين حدود سورية الشمالية حالياً ومدينة أفاميا القديمة جنوباً،  بطول يصل إلى نحو مئة كيلو متر وعرض يصل إلى نحو 20كيلومتراً أحياناً. تمتد أراضي هذه الكتلة بين واديي عفرين والعاصي غرباً، وسهل حلب وقنسرين شرقاً. وتقسم الكتلة الكلسية إلى سلاسل جبلية تفصل بينها ممرات ووديان، وهي جبال سمعان  وحلقة وباريشا والأعلى ودويلي والوسطاني والزاوية، وتتراوح ارتفاعات هذه الجبال بين 600 و1000م فوق سطح البحر.

يقدر عدد القرى المنسية كلها بأكثر من 800 قرية قديمة أثرية، على مساحة نحو 5500 كيلومتر مربع، من موقع النبي هوري (سيروس cyrrus) على الحدود الشمالية لسورية، إلى أفاميا في الجنوب، ومن حلب من الطرف الشرقي حتى وادي العاصي في الغرب، منها 60 موقعاً في حالة حفظ مميزة، لا يزال العديد من المباني القديمة قائماً بارتفاع بين 6 و8 أمتار، وقد حفظت جدرانها على كامل ارتفاعها تقريباً.بل إن بعض هذه المباني ظل على حاله ولم يفقد سوى الجزء الخشبي منه.إنها قرى بنيت كلها في الفترة الواقعة بين القرنين الأول والسابع للميلاد، ولا يزال منها قرى مأهولة، في حين أن عدداً كبيراً منها هُجر.

أما القرى الرئيسية في جبل سمعان فهي: براد وبرج حيدر وكالوتا وخراب شمس وكفر نبو وشنشار ودير سمعان وقلعة سمعان وصوغانة وكيمار ودير مشمش وباصوفان وشيخ سليمان وسيروس. 

عدد لا بأس من هذه القرى يعود إلى العصرين الروماني والبيزنطي، تتميز بطابعها المعماري الخاص، عبارة عن تجمعات لبيوت متوضعة دون تنظيم حول بناء عام رئيسي، غالباً ما يكون كنيسة أو معبداً، إضافة إلى حمّام عام أو نزل أو مكان للاجتماعات. وقد ارتكز اقتصاد هذه القرى على الزيت والصابون والخمر، لأن المنطقة اعتمدت على زراعة الزيتون والقمح والكرمة.

أبسط هذه البيوت يتألف من ثلاثة عناصر: مبنى من طابقين في كل طابق حجرة واحدة، وباحة وسور لحماية البناء، أما البيوت الأكثر تعقيداً فتتضمن مدخلاً وقبواً وملحقاً وأحياناً معصرة. يلاحظ أن هذه البيوت بنيت لغاية السكن والعمل. ففي الأرضي حجرات مخصصة للعمل والإنتاج، إضافة إلى حظيرة أو مخزن، وفي الطابق الثاني حجرات السكن تطل على باحة.

السؤال الذي يمكن طرحه: لمَ تباعد الاستيطان بين الفترات التاريخية المختلفة للكتلة الكلسية؟ فقد شهدت الكتلة فترات ازدهار وفترات تراجع سكاني. يعزو البعض ذلك إلى عدم اتصال الأراضي الزراعية فيهما بينها، بحيث تبدو بقعً متفرقة وسط الكتل الصخرية.

بدأ إعمار الكتلة الكلسية في بداية القرن الميلادي الأول مع بناء سلسلة من المعابد، تنامت حولها مساحات زراعية، ثم مع التوسع الروماني، شهدت المنطقة توسعاً معمارياً وسكانياً كبيراً في القرن الثاني الميلادي، ازدهاراً اقتصادياً واضحاً إذ زاد الاهتمام بتسوية الأرض الزراعية وإزاحة الحجارة الكبيرة.

 ثم عرفت تراجعً إثر الصدام الفارسي مع الروم، في القرن الثالث، وعادت إلى الحياة والنمو في القرن الرابع نتيجة التوسع السكاني، بدليل كثرة عدد المعاصر للزيت مع انتشار واسع لزراعة شجر الزيتون والصناعات المرتبطة بها، من استخراج الزيت وصناعة الصابون، إضافة إلى زراعة الحبوب.

شكلت منطقة الكتلة الكلسية قلب ومعبر طرق المواصلات بين أكثر المدن الرومانية تمدناً آنذاك: أنطاكيا واللاذقية وقنسرين وبيريا (حلب) وسيروس (النبي هوري)، مما ساعد على قيام تبادل تجاري واسع وتطور صناعي جيد للمنطقة، لا سيما أنها اكتسبت شهرة كبيرة في صناعة الزيت، وقد كان إنتاجها من الزيت يصدر إلى أبعد مدن الإمبراطورية، مثل معاصر كفر نبو الذي استخدم للتزييت والطعام والإنارة وفي الحمامات لدهن الجسم وتعطيره.

عندما انتشرت المسيحية انتشرت الكنائس في الكتلة التي أصبحت محجّاً للزائرين وللعبادة والتأمل، حتى أن بعض المناطق منها عرفت باسم نسّاكها، وشكلت سبباً لتوافد أعداد كبيرة من الناس للاستقرار في سورية الشمالية، خاصة لما اشتهر به هؤلاء النساك من تقشف وعبادة، ما أعطى شهرة كبيرة للمنطقة انعكس على التجارة والاقتصاد، بدليل أنه بنيت نحو ألفي كنيسة خلال القرنين الرابع والسادس، أشهرها كنيسة سمعان المبنية بين عامي 476 و491م المنسوبة إلى القديس سمعان الذي ابتكر من أعلى عمود عاش عليه شكلاً من الحياة أثار إعجاباً وشهرة كبيرين جذبت إليه جماهير غفيرة من الحجاج، وقد جرى تأمين بنية تحتية كافية لاستقبالهم، مما أكسب الكتلة شهرة واسعة ضمن مناطق شرقي المتوسط.

العدد 1104 - 24/4/2024