سبع سنوات على رحيله.. محمود درويش.. سجال العاشق والمقاوم

حتى حين كتب عن مدن تحترق كان عاشقاً، وحين يأفل نجم المكان ويتوهج المجاز يستقي من الحب فضاءاته.

حتى وهو يحاور الموت كصديق حميم يبدو الشاعر عاشقاً أو العاشق شاعراً.

 في استعادته للبروة قريته التي طُرد منها وهو صغير، في مراودة الذاكرة عن تفاصيلها الأليفة، لا يستطيع أن يخرج من إسار العاشق.

وهل الشعر إلا قصائد حب؟!

إنه النشيد الوطني للناس حين يلامس أحلامهم نصٌّ عن زهر اللوز مثلاً:

لو نجح المؤلف في كتابة مقطع

في وصف زهر اللوز

لانحسر الضباب عن التلال

وقال شعب كامل:

هذا هو

هذا كلام نشيدنا الوطني

ما نقوله عن الشاعر العاشق ليس نقضاً بأي معنى ومفهوم لمحمود درويش المقاوم، لكنه بعض صدى لندائه ذات يوم رداً على محاولات بعض النقاد التعامل معه ممثلاً (شرعياً ووحيداً) للجرح الفلسطيني، وحبسه ضمن جدران مفاهيم أبدية ومكرسة للمقاومة، كأيقونة لا تمس: ارحمونا من هذا الحب القاسي!

وفي سياق محاورة بعض أصوات ثقافية وسياسية حاولت أن تقرأ الأعمال الأخيرة لمحمود درويش، التي احتفى فيها بالحب والمرأة وتطرّق لقضايا وجودية (الموت والحرية والمكان والذاكرة…)، انقلاباً على ماضيه المقاوم، محاولين تقسيم تجربة الشاعر إلى مرحلتين: الأولى كان فيها يكتب شعرياً تعبوياً مقاوماً، والثانية التفت إلى قضايا أكثر غوصاً في عمق النفس الإنسانية، وترك للذاكرة والروح أن تتحرر من كل سطوة أيديولوجية أو سياسية، بعد أن طرأت مستجدات تاريخية على الساحة الفلسطينية والعالمية أدخلت مفهوم المقاومة في مماحكات ومساجلات لسنا بصددها.

محمود درويش، ومن اصطلح على تسميتهم بشعراء المقاومة، صعد نجمهم مع انطلاق المقاومة الفلسطينية كإحدى أنبل الحالات الشعبية، لأنها جاءت رداً على أشرس استعمار يتدثر بالدين والأساطير، ويزيح شعباً عن وطنه ليُحِلّ محله شعباً آخر.

ولا بد من الإشارة إلى أن هؤلاء الشعراء استفادوا من المقاومة فأصبحوا رموزاً تختصر حلم الملايين التواقة إلى الحرية، واستفادت المقاومة من الشعراء، فأصبح لها إضافة إلى إعلامها السياسي (إعلام ثقافي) يقدم هذه الظاهرة إلى العالم، لا كفدائي يحمل بندقيته ودمه ليحقق الحلم، على نبل هذه الصورة وعظمتها، بل أيضاً كحامل لمشروع إنساني حضاري جمالي مبدع في مواجهة ثقافة المستعمر المليئة بالأسطورة والخرافة والعنصرية رغم زيها العصري.

لكن، لم يغادر الشاعر مواقعه، ما حصل أنّ الحالة الجديدة للقضية الوطنية، والتطور في (تقنيات الحرب) و(أنواع الأسلحة) المستخدمة فيها، حتّمت على الشاعر أن يتزود ب(أسلحة) تلائم تطور الصراع وتشعبه، لكنه استمر مقاوماً ومدافعاً عن حق شعبه في الحياة والحرية، فإلى جانب (الجدارية) و(سرير الغريبة) و(يطير الحمام) التي تحتفي بالذاكرة والأنثى والموت كتب (محمد الدرة) و(حالة حصار) و(عابرون في كلام عابر) وقصائد أخرى لا تقل (ثورية) عن قصائده الأولى….

منذ أشعاره الأولى كان محمود درويش يقرأ المقاومة كفعل تاريخي إنساني شامل، ففي مجموعته الأولى (عاشق من فلسطين) الصادرة عام ،1966  ثمة تماهٍ بين الحبيبة والوطن، يرسم للبلاد تضاريس امرأة لا تعرف النسيان عيونها (شوكة في القلب/ توجعني وأعبدها) وهي فلسطينية العينين والوشم والاسم والأحلام والهمّ، فلسطينية المنديل والقدمين والجسم.

وفي المجموعة نفسها ترد قصيدة (أبيات غزل) لم يتوقف عندها القراء والنقاد كثيراً ربما لل(حب القاسي) نفسه:

أتفاحتي! يا أحبُّ حرام يباح

إذا فهمت مقلتاك شرودي وصمتي

أنا، عجباً، كيف تشكو الرياح

بقائي لديك؟ وأنتِ

خلود النبيذ بصوتي

وطعم الأساطير والأرض أنت

وفي مجموعاته الشعرية الأولى مثل: (حبيبتي تنهض من نومها) و(محاولة رقم7) و(آخر الليل) و(أوراق الزيتون) و(تلك صورتها وهذا انتحار العاشق) قصائد عاشقة دافئة وعميقة، لكن التركيز بقي على القصائد التي يعلو فيها صوت محمود المقاوم، فكادت الأخرى أن تبقى حبيسة الدواوين.

 لنقرأ  محمود العاشق لا لفلسطينه، بل لنصفه الآخر، لأنثاه، لذاته، للأصدقاء والمدن والكأس، محمود الآخر الذي كاد أن يغيب تماماً خلف الصورة الكبيرة واللامعة لمحمود المقاوم حتى صرخ جملته التي ذكرناها قبلاً.

في هذا السياق تكاد تكفي قصيدة (يطير الحمام)، إذ يحلّق فيها درويش بالحب كحالة إنسانية خالصة روحاً وجسداً، فيلتقي المجرد بالمحسوس، المرئي باللامرئي، الأشواق بالرغبات، حرائق الروح بنيران الجسد، في سبك هو عجينة درويشية بامتياز:

وأنت الهواء الذي يتعرّى أمامي كدمع العنب

وأنت بداية عائلة الموج حين تشبّث بالبرّ حين اغترب

وإني أحبّك، أنت بداية روحي، وأنت الختام

يطير الحمام

يحطّ الحمام

ويبني حواراً حميمياً بين المرأة التي توحدت في الحب مع عاشقها، فأخذها من كل ما كانت هي عليه، أخرجها من عالمها الصغير الجميل إلى عالم تخافه لأنه بحر لا نهائي يحمل في أسفاره المتعة والعنف، الرغبة والرهبة، الانتصار والغرق..

يستعيد أشعار المتصوفة في الحب الذي يكسر حواجز الجسد والروح واللغة.

ثم يعلو صوت الجسد حين يوجه نداءه الحار للآخر، فنقرأ فيها من أغنى ما كتب في تاريخ الأدب عن تلك النار التي لا تنطفىء إلا لتزيد اشتعالاً، في ملامسة جديدة وعالية للعلاقة بين رجل حر وامرأة حرة، بين عطش وماء، بين مطر وأرض..

حبيبي، أخاف سكوت يديك

فحكّ دمي كي تنام الفرس

حبيبي، تطير إناث الطيور إليك

فخذني أنا زوجةً أو نفس..

 في (كزهر اللوز أو أبعد) التي صدرت قبل رحيله بثلاثة أعوام نلمس الغنى الإنساني في قصائده التي لا تبتعد كثيراً عن بداياته سوى في أداوتها التي لا يعقل إلا أن تتطور وترقى لشاعر بعظمة درويش.

 نقرأ هنا رؤية محمود درويش الواسعة لقضايا الفرد اليومية الصغيرة التي تعكس في النهاية قضاياه الكبرى، رؤية الآخر المختلف ضمن الشرط الإنساني وتقبله كإحدى هواجس القصيدة، فلا ينسى (شعب الخيام)، ولا المحرومين من حق الكلام، ومن لا يجدون حيزاً حتى لمنام..

في حوارية شعرية مدهشة بين أنثى في مطلع ربيعها ورجل في نهايات الخريف، يمارس النص الدرويشي لعبته الأثيرة في ابتداع ملاعب أوسع للكلام ليمارس غوايته في استدراج القصيدة إلى حالة عادية، لكنه كعادة الشعر العظيم يطير بها عالياً، فيبني من أحجار باهتة أهرامات عالية:

قال لها: ليتني كنت أصغر…

قالت له: سوف أكبر ليلاً كرائحة

الياسمينة في الصيف

ثم أضافت: وأنت ستصغر حين

تنام، فكل النيام صغارٌ، وأما أنا

فسأسهر حتى الصباح ليسودَّ ما تحت

عينيَّ.خيطان من تعب متقن يكفيان

لأبدو أكبر.أعصر ليمونة فوق

بطني لأخفي طعم الحليب ورائحة القطن.

أفرك نهديّ بالملح والزنجبيل فينفر نهدايَ

أكثر..

العدد 1102 - 03/4/2024