نصر حامد أبو زيد وأشواك التكفير

تملكُ الحياةُ عبرَ مسيرتها الطّويلة والشّاقّة، طاقةً كبرى لا حدودَ لها على التّجدُّد وإعادة إنتاج ذاتها. يجري ذلك بشكلٍ دائم ودؤوب. فالحياةُ غيرُ قابلة للجمود والتّوقُّف، وفي كلّ تجدُّدٍ حضاريٍّ وفكريّ، تُفرزُ الحياةُ أناساً غير قابلين للذّوبان في مُلوحتِها الجامدة، لهم وضوحُ الأرض والطّبيعة الّتي أفرزتْهم ونقاؤها، وهم في الوقت ذاته يحوِّلون مساراتِ حياتهم كما يليقُ بشخصيّاتهم الاستثنائيّة وبالأَدوار الّتي انتدبوا حياتهم لأجلها في كينونة إعادة صياغة وجه الفكر والحضارة والإنسان. من هنا كان الدّورُ الاستثنائيُّ لابن مدينة المحلّة الكبرى نصر حامد أبو زيد، الّذي جاء يحملُ في يمينه دبلومَ الدّراسة المتوسِّطة في اختصاص اللاّسلكي، ليغوصَ في أعماقِ كلّية الآداب في جامعة القاهرة، ثمّ يتخصَّصُ في الدّراسات الإسلاميّة عامّةً، ويسعى لتغييرِ مفهوم النّصّ والخطاب الدّيني بمرويّاته وشخوصه، ويُحدِث جدَلاً يليقُ بمَنْ يُريدُ أن يقودَ قاطرةَ المجتمع البشريّ، من جمود الفكر وتحنيط النّصّ إلى رحاب مساحةٍ فاعلةٍ مُتصاعدةٍ. فكان المشعلُ الّذي أضاءَهُ نصر حامد أبو زيد مشعلاً ثوريّاً نيِّراً،تصدّتْ له العباءاتُ المهترِئة والعمائم المزيّفة، فاستطاعَتْ أن تحجبَه فترةً من الزّمن، شاهرةً سلاحَ التّكفير الهمجيِّ والفتاوى الرَّعناء…

وُلِدَ نصر حامد أبو زيد في محافظة الغربيّة – المحلّة الكبرى في 10 تمّوز 1943 لأسرةٍ ريفيّةٍ مُتواضعة المستوى المادّيّ. وبسب وفاة الأب وظروف الأسرة الاقتصاديّة، اكتفى الطّالبُ الفتى بالحصولِ على دبلوم الدّراسة الثّانويّة الصِّناعيّة قسم اللاّسلكي، في عام ،1960 وعمل عاملاً فنّياً في الهيئة المصريّة العامّة للاتّصالات السّلكيّة واللاّسلكيّة لِيتولّى الإنفاقَ على أسرته وإخوتِه الصِّغار. ثمّ التحقَ بكليّة الآداب – جامعة القاهرة، ليتخرَّجَ في قسم اللّغة العربيّة وآدابها عام 1972. ثمّ تابع دراستَه العليا في مجال الدّراساتِ الإسلاميّة وبحوثِها، فحصلَ على الماجستير عام 1976 ثمّ درجة الدّكتوراه عام 1979. عُيِّن بعد ذلك مُدرِّساً في قسم الدّراسات الإسلاميّة في الكلّيّة التي تخرّج فيها، وتدرّج في مناصبِها إلى أن تقدّمَ بأبحاثِه إلى لجنة التّرقية من أجل الحصول على درجة الأستاذيّة. فكانت هذه الأبحاثُ سبباً في تفجيرِ أزمةٍ حادّةٍ شرسةٍ، فجَّرتْها العمائمُ الجامدة في وجهِه، وقادَتْها العقليّاتُ المُححنَّطةُ المُنتميةُ إلى زوايا الكهوفِ البالية. وقد لاقى د. نصر حامد أبو زيد وزوجتَه د. ابتهال يونس عَنَتاً كبيراً، وسارا على أشواكِ التّكفيرِ والتّهجُّمِ والإقصاءِ ردحاً من الزّمن.

اشتغلَ نصر حامد أبو زيد في دراساته وأبحاثِه على تحليل الخطاب الدّينيِّ والعمل على تفكيك مركزيّتِه وقداستِه، والتّعامل معه بتقنيّات النّقد والتّحليل العلمي والتّاريخي، مستعيناً في ذلك بِإِمكانات مُساءَلة النّصّ لغويّاً وثقافيّاً وتاريخيّاً، إلى جانب الاتِّكاءِ على مفهومَيّ الدّلالة والتّأْويل، لِيخلُصَ إلى نتائجَ علميّةٍ مهمّةٍ فيما يتعلّقُ بنقد الخطاب الدّينيِّ وفلسفتِه والولوجِ إلى أعماقِه الثّقافيّة والدّلاليّة. مُطالِباً بالتّحرُّرِ من سلطة النّصِّ وهيْمنتِه وإلغاءِ طابع القداسة عن نصوصٍ أصبحت في متاهة التّاريخ القديم، والتّعامل معها بعقليّةٍ علميّة ناقدة، بعيداً عن اعتبار النّصِّ نصّاً أوحد يحكمُ فضاءَ الأرض والفكر والثّقافة… في كتابِه (مفهوم النّصّ) يقول نصر حامد أبو زيد: (القرآنُ هو النّصُّ الأوّلُ والمركزيُّ في الثّقافة الإسلاميّة، فلقد تحوّل عبر الزّمن إلى نصٍّ أوحدَ مُهيْمنٍ ومسيطرٍ في الثّقافة عامّةً، فهو يؤسِّسُ ذاتَه ديناً وتُراثاً، وقد آن الأوانُ للمراجعة والانتقال إلى مرحلة التّحرُّر، لا من سلطة النّصوص وحدها، بل من كلّ سلطةٍ تعوقُ مسيرةَ الإنسان في عالمنا، عليْنا أن نقومَ بهذا الآن وفوراً قبل أن يجرفنا الطّوفان)..

لقد أبدعَ يراعُ أبي زيد دراساتٍ وكتباً كثيرةً تنحو هذا النّحوَ وتُطالِبُ بسيطرة الرّوحِ العلميّة النّاقدة في كلّ مجال. كان من أهمّ كتبه وأبرزِها: مفهوم النّصّ – فلسفةُ التّأْويل – نقدُ الخطاب الدّينيّ – إشكايّةُ القراءَة وآليّاتُ التّأْويل – التّفكيرُ في زمن التّكفير… لقد أثارَت هذه الكتُبُ والأبحاثُ موجاتٍ عارمةً من الغضبِ والضّيقِ الأكاديميِّ عند ضيّقي الصّدور ومحدودي التّفكير من أرباب الأزهر وأساتذةِ أقسام الدّراسات الإسلاميّة في جامعة القاهرة. وبسبِ ما أثارتْه تلك الكتب والدّراساتُ من جَدَلٍ كان جديراً بالحوار النّقديِّ أكثر من إثارة القلاقل، وبسبب ما أحدثتْه من أثرٍ عميقٍ في الوعيِ الرّاسخ بمفهوم النّصِّ وقداسته وطقوس فهمه، فكانت هذه الكتب بمثابة اليد الّتي مسحتِ الغبارَ المتراكم عن التّراثِ لِيبدوَ على حقيقته، وبمثابة مبضع الجرّاح الّذي أزالَ الغشاوةَ عن العيون لِترى الحقيقة.. لكلِّ ذلك اتُّهم نصر حامد أبو زيد بالكفر والإلحاد وجرى التّحريضُ الأرعنُ للإساءَة إليه والتّنكيلِ به. لقد تكوّنت لجنةٌ من أساتذةِ جامعة القاهرة، كان أبرزُهم د. عبد الصّبور شاهين، الذي اتّهمَ في تقريره أبا زيد بالكفر والإلحاد، كما اتّهمه بالمعاداة الشّديدة لنصوص القرآن والسّنّة والدّعوة لرفضِهما، وكذلك التّهجّم على الصّحابة وإنكار المصدر الإلهي للقرآن، والدّفاع عن الماركسيّة والعلمانيّة وعن سلمان رشدي..وعلى أثر هذا، نشبَتْ معركةٌ فكريّةٌ واسعةٌ بين أنصار أبي زيد ومُؤيّدي شاهين، وطولِبَ أبو زيد بالتّراجع وإعلان التّوبة عن الأفكار الّتي وردَتْ في كتابه (مفهوم النّصّ) وكتبِه الأخرى. رفضَ أبوزيد تحقيقَ هذا التّراجع، كما رفضَ مطالبةَ المحكمة له بأداءِ الشّهادتين ليؤكِّدَ إسلامَه، معتبِراً أنّ هذا الطّلبَ جائرٌ ومن شأنِه التّفتيشُ عن النّوايا الّتي لا يحقُّ لأحدٍ التّدخُّلُ فيها.

ولمّا عجزتِ اللّجنة الشّاهينيّةُ عن إيجاد نصٍّ قانونيٍّ يدينُ أبا زيد بالكفر والإلحاد، لجأَتْ إلى ما يُسمّى (قانون الحسْبة) و(قانون الأحوال الشّخصيّة) اللّذيْن يأخذان بفقه الإمام أبي حنيفة السّائد في مصر. وقانونُ الحسبة هذا، هو قانونٌ تكفيريٌّ جائرٌ، يقضي بتفريق الأزواج ويتدخَّلُ في قمع حريّة الفكر والتّعبير والحياة الشّخصيّة، وقد حوكِمَ بموجبه كثيرٌ من الكتّاب والمفكِّرين مثل نجيب محفوظ وفرج فودة ونوال السّعداوي وإبراهيم عيسى.

رفعَتِ اللّجنةُ دعوى قضائيّة تُطالِبُ بالتّفريق بين د. نصر وزوجتِه د. ابتهال يونس، وهو الأمر الذي اضطرّهما إلى مغادرة أرضِ الكنانة…

د. ابتهال يونس أستاذ الأدب الفرنسيّ في كليّة الآداب- جامعة القاهرة، جمعتْها المصادفةُ والحبُّ بزميلها د.أبي زيد، فدخلَتْ عالمَه المليء بالألغام زوجةً وشريكة عمْرٍ وقناعات، فسارَتْ معه على دروبٍ مليئةٍ بأشواك التّكفير، ورفضَت مثلَه قراراتِ اللّجنة الجائرة، وتحمّلَتْ معه طغيانَ الرّجعيّة الفكريّة والدّينيّةِ المسيْطرة وعنتَها. ووقفَتْ معه على مِنصّاتِ القضاء للدِّفاع عن حبِّها وزوجها وأسرتِها أمام جور قانون الحسبة الّذي لا يُقيم وزناً لإنسانيّة وفكرٍ وثقافة. الأمرُ الّذي اضطرّهما أن يُحلِّقا ويُغرِّدا في فضاءٍ أوسع من الفضاء المصري المتخم بالمكفِّرين والفاسدين. توجّه د. نصر وابتهال إلى فضاء أوربّا التّي تجاوزَتْ أمثالَ تُرّهاتِ ومستنقع قانون الحسبة وحملات التّكفير. هناك في جامعة ليدن بهولندا، شَغَلَ نصر حامد أبو زيد كرسي ابن رشد للدِّراسات الإسلاميّة، حيثُ انفتحَ خلالَ تدريسِه على جوهر النّصّ والعقل والمنطق، فكان خيرَ ممثِّلٍ لابن رشد الفيلسوف والمفكّر العربيّ والإسلامي الّذي واجَهَ محنة التّكفيرقبل ثمانية قرون. واستمرّ د. أبو زيد من خلال كرسي ابن رشد، يُتابعُ نشاطَه وفكرَه التّحليليّ والعلمانيّ، ويقومُ بزياراتٍ خاطفةٍ إلى مصرَ وبعض الأقطار العربيّة، زيارات لها طابعٌ إنسانيٌّ وعلميٌّ وأكاديميّ، إلى أن عاد أخيراً إلى وطنه مصرَ لِيستقرَّ ويعملَ عل تدشين مشروعٍ فكريٍّ وبحثيٍّ كبير… لكنّ القَدَرَ المحتومَ لم يمهلْهُ. ففي 5 تمّوز،2011 رحلَ رحلتَه الأبديّةَ عن هذا العالم المثخنِ بأشواك التّكفير إلى حيثُ لا تسلُّط ولا مصادرة للفكروالعقل ولا مسالخ للتّكفير والعقاب…

سيذكرُ الثّوريّون العربُ وكلُّ التّقدُّميّين والعلمانيّين أنّ د. نصر حامد أبو زيد، بأبحاثِه وكتبه ودراساته الكثيرة، حرّكَ سطحَ بحيرةِ الثّقافة الرّاكدةِ ليمنعَها من أن تتجلّد وتحتقنَ بالمياه الآسنة. ولكنّه دفعَ الثّمنَ غالياً…

العدد 1102 - 03/4/2024