تأمل الآلام

يزحف الرجل من منتصف الطريق جارّاً جسده باتجاه إحدى الزوايا، أشهق، أحبس أنفاسي وعيناي تكادان تنفران من محجريها، وهما تريان خيط الدم يرسم بعداً مستحيلاً للألم. حمل جسده ونزيف جرحه وتسلق بأنفاس متقطعة الرصيف الذي بدا له عالياً، انحدر عرقه كالسيف بارقاً تحت أشعة الشمس الحارقة، شاقاً تضاريس جسده ممتزجاً بدمه. تابع الزحف ليلتجئ إلى ظل الجدار صارخاً بصوت كان في البدء صاعقة تشق صفحة السماء، لم تلبث أن تحولت إلى نسمة لا يكاد يشعر بها من تلامسه مستنجداً بالخلائق كي ينقذوه. فلم يرتد إليه سوى صدى صوته. سمعتُ صرخته مدوية في البدء، ثم تحولت إلى أنين قادم من بئر سحيق، تمزق قلبي نثرات حزن وشفقة عليه، وفارت دماء الحمية من شراييني. قلت كمن يخطط لمشروع يحتمل التروي قدر المستطاع: سأغامر، سأضع روحي على كفي وأنزل إلى الشارع، أسحبه باتجاه باب البناء، ثم أطلب طبيباً يسعفه، فأكون بذلك قد أنقذت روحاً من الموت. أصمم على ذلك، أقف على قدمين واحدة باتجاه الباب وأخرى متجمدة، وأعصابي ترتعد خوفاً وغضباً، ماذا لو قُنصت مثله، حتى إنني لا أعرف الرجل، ومن غير الممكن السؤال عمن يعرفه حيث لا أحد يجرؤ على الخروج من بيته إلا لأسباب قاهرة.

ليتني لم أره، لكنه بالمصادفة سقط أمام عيني، وأنا أنظر إلى الشارع متأملة خلوه من كل من يدب عليه في مدينة الأشباح المقفرة هذه، وبالتحديد منذ اليوم الذي علمنا فيه بوجود قناص متمركز على سطح إحدى البنايات، حين سقطت أول امرأة وتلاها ثلاثة رجال وطفل في الثانية عشرة من عمره. ترى لأي صنف من البشر يتبع هذا القناص؟ إنه محترف بجدارة، يصيب الهدف بمهارة كأنه يصطاد أرنباً برياً أو غزالاً شارداً. هل يفرح ويستعيد توازنه حينما يترنح صيده متهاوياً على الأرض؟ هل يعدّه غنيمة؟أتتملكه لذة الظفر؟ لم لا؟ ربما نفخر أيضاً بدقة التسديد والإصابة، هل تنطفئ لديه جذوة الحقد والتشفّي؟ ألا تراوده مشاعر الألم والأسى عما تقترف يداه؟ ألا يشعر بتأنيب الضمير؟ أم أن دماغه مغسول وقد أعدمت فيه جميع الأحاسيس والمشاعر؟ أم لعل جسده حقن بالماء بدل الدماء؟!

تفصلني عن الرجل عدة أمتار، مسافة شارع لا يزيد عرضه على مقدار قفزة عدَّاء، فيما قبل لم يكن الجريح أو الجثة يبقيان في مكانها أكثر من ساعة، ثم يأتي من يحملها إلى أهلها، أما هذا فقد طال مكوثه، عفواً نسيت القول بأني لم أجرؤ على الخروج لإنقاذه وغلبني الجبن، لكني بت أمسك كل يوم المنظار وأراقب الجثة عن كثب فضولاً مؤلماً لمعرفة مصيرها. وإليكم التفاصيل:

في اليوم الأول والجرح مازال ينزف دماً، ودمعي لم يجف قهراً، لأني مكبلة ولا حيلة لي ولا قوة، أتبرم وأزفر غضبي بوجه من حولي متسائلة: أما من أحد يتقدم منه لينتشله؟ ألم يتفقده أهله فيخرجون للبحث عنه ؟ومع انحسار ضوء النهار نضب الدم من الجسد ومع قطرات دمع فائضة لم تجف بعد وابتسامة أمل على شفتيه مال برأسه إلى الأسفل كأنما يبحث عن مدفن في الأرض.

في اليوم الثاني قمت من الفراش موقنة أن اليوم السابق هو كابوس مزعج، صحوت على أمل نسيان تفاصيله بعد وقت قصير. لكن صفة الفضول التي ترافقني دائماً تلح عليَّ للتقصي. التقطت فوراً المنظار وسددته صوب الجثة كما القناص تماماً، ها هي ذي مازالت في مكانها لم يزحزحها مخلوق، أتأفف وألعن الدنيا وأبكي قهراً. كيف يمكن أن تكون لإنسان ما نهاية كهذه؟ أن تقتل ويدفنك أهلك باتباع جميع طقوس الدفن، أو تصاب وتكتب لك النجاة من الموت، أو تبلى بعاهة دائمة أمر تحمد الله عليه، أما أن ترمى جثتك كخرقة بالية على قارعة الطريق تعافها القطط والكلاب دون أن يعثر عليها من يواريها التراب، فأي زمن هذا؟

لم أمسك المنظار في اليوم الثالث، وانتظرت كي أطيل الأمل، حتى وقت الظهيرة لعلني لا أجدها فأرتاح من رؤيتها مركونة إلى زاوية الجدار تنتظر رحمة العباد. رأيتها والشمس تلفحها منتفخة مصقولة هُيِّئت لانفجار دودي يباشر إفراغها.

لا أعتقد أنكم تحبون متابعة وصف الجثة في الأيام والأسابيع التالية، بعد ذلك نزحت مع عائلتي تسللاً خارج المدينة، وأعتقد أن العظام ما زالت في مكانها لم يجرؤ أحد على زحزحتها، يكفي أن تتخيلوا جيفة ملقاة في البرية في عز الحر، الأمر نظري بحت.

نعم إلى هذه الدرجة بات الإنسان وحشاً ضارياً وجائعاً، عفواً سعدالله ونوس، بل إننا محكومون بالصبر في هذه البلاد.

العدد 1102 - 03/4/2024