بعض الذكريات مع الرفيق الراحل يوسف الفيصل

في الرابع عشر من تموز الماضي رحل القائد الشيوعي البارز والمناضل الوطني والقومي المعروف يوسف الفيصل، تاركاً على أرض وطنه سورية حزباً شيوعياً من نوع جديد.. حزباً أبرز ما يمتاز به أنه يمارس الديمقراطية الحزبية الحقة في مختلف جوانب حياته التنظيمية والسياسية والفكرية، دون أن يغيب عن ممارساته العملية مبدأ المركزية الديمقراطية القائم على وحدة الإرادة والعمل من قبل جميع أعضائه بعد اتخاذ القرار ديمقراطياً.

رحل يوسف الفيصل بعد سبعين عاماً من مسيرته النضالية في صفوف الحزب الشيوعي السوري، منفصلاً كلياً عن جذوره الطبقية البرجوازية المتوسطة، لينحاز بكل قوة وبإيمان مطلق إلى جانب الفئات الطبقية الفقيرة من عمال وفلاحين ومضطهدين.. وعن هذا الطريق الذي سلكه تمت معرفتي به وارتباطي معه فكراً وعملاً ونضالاً.

تعرفت على الرفيق أبي خلدون لأول مرة عام 1955 خلال الانتخابات التكميلية في محافظة حمص، وإقامة التحالف الأول بين حزبنا الشيوعي وحزب البعث وكتلة هاني السباعي وبعض الوجوه الوطنية الأخرى، والاتفاق على ترشيح السيد أحمد الحاج يونس باسم هذا التحالف، ومجيء الرفيق خالد بكداش إلى حمص ونزوله في دار آل الفيصل واستقباله للوفود التي جاءت لتلتقي به، وكان الرفيق يوسف ممن يستقبل الوافدين ويعرّف بهم.

أما أول لقاء عمل معه فيعود إلى صيف عام 1956 عندما تأزم الوضع كثيراً في قرى المشرفة بين الفلاحين والإقطاعيين المتحدين ضدهم من آل ثابت مالكي هذه القرى وآل مرهج المستأجرين لها.. إذ إنهم لم يكتفوا باضطهادهم ونهبهم وامتصاص نتائج عرقهم وجهودهم في الأرض التي يعملون عليها، وإنما أرادوا أن يخضعوهم لمشيئتهم بالانتقام من حيوانات العمل عندهم التي جرت العادة أن تبقى في نهاية يوم العمل على البيادر لتأكل، فأمروا زلمهم بمنع بقائها لتتعشى، مما أدى إلى إنهاك هذه الحيوانات والوصول بها إلى حد الموت جوعاً.

جنّ جنون الفلاحين وانتشرت روح المغامرة بين صفوفهم، وبدؤوا يستعدون لمعركة دموية مع الإقطاعيين وزلمهم وزبانيتهم، وكاد الأمر أن يخرج من يد منظمتنا الحزبية التي كانت توجه وتقود الحركة الفلاحية في قرى »المشرفة والجابرية وبادو وعين الدنانير والحوش«، التي تعود كلها لمالك واحد ومستأجر واحد.

بحثت اللجنة الفرعية الموضوع، وقررت أخذ رأي اللجنة المنطقية في حمص التي أقرت أيضاً إخبار القيادة وأخذ رأيها. فسافرتُ إلى دمشق وأطلعت القيادة على ما وصلت إليه الأمور، فطلبَتْ أن أعود فوراً إلى القرية وبذل كل الجهود مع الفلاحين للابتعاد عن التهور، وأنها ستبلغ سريعاً بما يجب القيام به للرد على تصرفات الإقطاعيين الإجرامية.

عدتُ إلى القرية وأبلغت الرفاق بذلك، واجتمعنا مع اللجنة الفلاحية التي كنا قد شكلناها منهم لقيادة الحركة، وقمنا بنشاط واسع للإمساك بالأمر وعدم التسرع.

في اليوم الثاني أُبلغنا بالسفر إلى حمص للاجتماع بموفد القيادة في عيادة الدكتور زياد الساعاتي، وهناك التقيت بالشاب المناضل يوسف الفيصل، الذي لم يكن قد تجاوز الثلاثين من عمره، ويشع من عينيه شعاع القوة والصلابة والطموح، وتبرز من خلال أحاديثه الثقة المطلقة بالمستقبل، والاعتزاز بالمبدأ والإيمان بالنصر.

استفسر عن واقع القرية وبنيتها الاجتماعية والواقع الطبقي للفلاحين، ومستوى العلاقة بين المنظمة الحزبية والحركة الفلاحية، وعن موقف الفلاحين الأغنياء في هذه المعركة، وعن زلم الإقطاعي ومنشئهم، ومن ثم أعطى توجيهات الحزب قائلاً: إذا كانت ثقتكم قوية بصلابة موقف الفلاحين واستعدادهم للتضحية، فخوضوا المعركة حتى النهاية، واقتلوا الإقطاعي، وحاولوا المستطاع لكي لا تتوجه المعركة ضد زلمه الذين جاء بهم من قرية دير بعلبة المجاورة ليخلق العداوة بين القريتين، فهؤلاء ليسوا أعداءكم الطبقيين.. كانت تلك توجيهات القيادة، وتقع عليكم مسؤولية تقدير الوضع واتخاذ القرار المناسب.

ساعتان من البحث والتحليل، وعند الوداع ابتسم وقال: »لا يعني قتل الإقطاعي تصفيته جسدياً، وإنما ضربه وإهانته وإذلاله أمام زلمه وعملائه وأعوانه، فيبتعدون عنه وينطوون على أنفسهم«. وبالفعل فقد حصلت معركة دامية بين الفلاحين الذين يحملون الفؤوس والعصي، وبين الإقطاعي فريد مرهج ورجاله الذين يستخدمون البواريد »البنادق«، وكان النصر للفلاحين الذي آمنوا بقضيتهم ودافعوا عن حقوقهم، فتجمعت مجموعة من النساء والرجال وانهالوا على الإقطاعي فريد مرهج بالضرب ورموه أرضاً، فهرب رجاله بعد جرح ثلاثة رفاق برصاص المجرمين.

قلت: كان هذا هو أول لقاء عمل حزبي مع الرفيق يوسف. ومرت الأيام وأرسلني الحزب للدراسة في بلغاريا عام ،1958 لأعود في أيلول عام 1962 إلى وطني سورية. ثم قامت حركة 8 آذار عام ،1963 ولوحق الشيوعيون واعتقل بعضهم وسجنوا وأنا بينهم.. وبعد السجن عُدْت للعمل في اللجنة المنطقية في حمص، ومن ثم في مختلف مناطق البلاد، وفي مختلف هيئات الحزب وأصبحت لقاءاتنا متواصلة حتى أيامه الأخيرة وقبل وفاته بأسابيع.

الحديث هنا طويل وطويل، لا يستوعبه كتاب مهما كبر، إلا أنني سأقتصر بالحديث عن موقفني اثنين فقط لأشير إلى إمكاناته الفكرية والسياسية ونفاذ بصيرته وسرعة بديهته وتكيفه مع الحدث وشدة حنكته.

في عام 1964 كان الرفيق أبو خلدون يقود سرياً عمل المنظمة في حمص، وذات مرة خرجنا من اجتماع اللجنة المنطقية وسرنا في أحد شوارع المدينة، وكانت الساعة قد تجاوزت العاشرة مساء، ومن حيث لا ندري وجدنا أنفسنا قد أصبحنا أمام مديرية الأمن السياسي، التي لم يكن الرفيق يوسف يعرف مكانها. فقال لي: تابع بشكل عادي، وأخذ يحدثني عن جمال السهرة التي قضيناها مع أصحابنا، وعن جودة الشراب والطعام، وضحك وضحكت. وعندما وصلنا إلى أمام الحرس ألقى عليهم السلام، وهكذا فعلت، وتابعنا طريقنا.. وما إن ابتعدنا حتى قال لي: أيها الرفيق! إن أي تردد في مثل هذه الحالة يجلب الشك، وربما يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه، هذا أولاً. وثانياً، إن من غير المعقول أن يفكر رجال الأمن أن يوسف الفيصل ومشهور غريبة اللذَيْن يلاحقونهما يمكن أن يمرا من أمام مركزهم، ولهذا كان لابد من ضبط النفس ومتابعة السير بكل هدوء ولا مبالاة لأن في ذلك النجاة.

وفي أحد اجتماعات اللجنة المنطقية، كان البحث يدور عن نشاط المنظمة والرفاق المتعلق باللقاءات مع القوى السياسية الوطنية في حمص لإقامة جبهة تقف في وجه الملاحقات والاضطهاد والديكتاتورية. وكان الرفيق نوري حجو الرفاعي يتحدث عن لقاءاته ومناقشاته مع البعض، والملاحظات والآراء التي يطرحونها. وفي الساعة الحادية عشرة والربع ليلاً فتحنا الراديو للاستماع إلى الأخبار، فسمعنا أناشيد وطنية تتعالى، فخفضنا الصوت وتابعنا البحث، وفي نحو الساعة الثانية عشرة صدرت قرارات التأميم التي صدرت إبان رئاسة أمين الحافظ للبلاد، فما كان من الرفيق يوسف إلا أن قال بعد الانتهاء من إذاعة القرارات:

أيها الرفاق! إن كل ما بحثناه حتى الآن أعتقد أنه أصبح في الماضي، لأن واقعاً جديداً حل في البلاد، ولهذا سأسافر فوراً إلى دمشق، إذ لابد من أن تجتمع القيادة وتتخذ الموقف الملائم، علينا أن ننتظر القرار والخط الذي سيُنتهج على ضوء هذه الإجراءات الهامة.

وبالفعل أذيع في اليوم الثاني بلاغ الحزب المؤيد لهذه الإجراءات، والدعوة إلى رص الصفوف والتعاون لإنجاح هذه الإجراءات، لما فيه خير الشعب والبلاد.

ومن المعروف أن هذا الموقف فتح الطريق لمرحلة جديدة عنوانها: التعاون والتحالف بين حزبنا وحزب البعث، ومن ثم قيام الجبهة الوطنية التقدمية.

إن أقل ما يمكن أن نقدمه وفاء لروح رفيقنا أبي خلدون، هو أن نصون وحدة حزبنا وأن نعمق روح المبادرة والوطنية في صفوفنا.

العدد 1102 - 03/4/2024