أرقام القبور… في سيرة كل مقبور!

حدّثني صديقي عبد الرزّاق بن محمد بن عبد الرزّاق.. قال:

 منذ عشرات السنين حدّثني متعهّد حفر القبور في مقبرة باب الصغير أنهم كانوا ينزلون بضع درجات في طريق دخولهم إلى المقبرة.. واليوم نصعد إليها بضع درجات..!

قلتُ:  

 خفِّف الوطء، ما أظنُّ أديمَ ال 

أرضِ إلا منْ هذهِ الأجسادِ..

قال: لنا فيها قبور ثلاثة، ورثناها كابراً عن كابر.. في أحد الصباحات وجدت شواهد القبور تحمل أرقاماً سوداً مكتوبة بخط رديء، فهرعت إلى مكتب دفن الموتى للاستفسار.

قلتُ: فعلت حسناً..

تابع وهو يبتسم: واحد من قبورنا الثلاثة يحمل لوحة رخاميّة عليها اسم أسرتنا، لكنّه فارغ.. القبر الثاني ترقد فيه والدتي رحمها الله.. أمّا القبر الثالث فترقد فيه جثامين جدّي وأبي وأخي رحمهم الله.. وقفت في آخر طابور طويل من المراجعين أمثالي، وعندما جاء دوري، والتقط الموظّف من فمي بعض المعلومات، فتح دفتره الكبير، وبادرني دون أن يرفع ناظريه:

 أمّا القبر الأول الفارغ فهو ملك للدولة.!

أبرزتُ في الحال إيصالاً من حفّار القبور المرحوم -وهو جد الحفّار الحالي- مذيّلاً بختمه وتوقيعه يقول بأن والدي رحمه الله اشترى منه (بصفته المتعهّد في ذلك الوقت) قطعة أرض تتّسع لقبرين، وبناهما في وقت واحد، وسقفهما بسقف واحد من الأسمنت المسلّح.. وقلت إنهم يستطيعون التأكد من ذلك بالكشف الصريح.

المشكلة يا صاحبي أنهم يقصّون أولاً ثم يعدّون.. الخلاصة.. لم يسمعني بل قال:

 إذا لم تدفع 2000 ليرة يطير القبر.؟

وحتى لا يطير القبر، وحتى أحافظ على عهدي لأبي، وحتى أضمن مقاماً لرقدات الراحلين، توكلت على الله ودفعت 2000 ليرة بالتمام والكمال، وحملت الإيصال تحت إبطي، ومضيت راضياً.

بعد أكثر من عام سمعتُ (والكلام ما زال لصاحبي) وقرأتُ إعلاناً يدعو أصحاب القبور لمراجعة مكتب دفن الموتى.. فهرعت إليهم، أحمل إيصالي، وابتسامة رضا كوني من السبّاقين إلى تنفيذ تعليمات الحكومة.

أطلق زفرة حارّة وتابع: التعليمات الجديدة الصادرة عن مكتب دفن الموتى تستدعي تقدّم أصحاب القبور بطلبات إثبات ملكية جديدة أيضاً. ولم تنفع كل بياناتي وإيصالاتي وشهاداتي في إقناع الموظف النشيط بأنني صادق فيما أقول. الخلاصة حزمت رأيي وتقدمت بطلب حسب الأصول وعلى الصيغة التي أملوني إياها.. وما إن وقع نظره على عبارة (القبر رقم كذا فارغ)، حتى انتصب واقفاً وقال:

 عليك أن تدفع 7500 ليرة ثمناً للقبر الفارغ حسب التسعيرة الجديدة.. وإلا سيطير القبر..

منذ مدّة أعلمني الحفّار أن شاهدة قبر أمي مكسورة، بعد أن صدمها نعش محمول على الأعناق، ومن باب إيماني بقضاء الله وقدره، وحرصي على كسب رضا الوالدين الراحلين.. هرعتُ، وركبَّت شاهدة رخامية جديدة للقبر، وقمت بعمل صيانة عامّة للقبور الثلاثة، وقد نقل الرخّام الكلام المكتوب على الشاهدة المكسورة إلى الشاهدة الجديدة بالكلمة والحرف والفاصلة والرقم..

موظف الكشف سألني إذا كنت حصلت على رخصة ترميم قبل أن أركّب الشاهدة الجديدة، وعندما أجبت بالنفي، لأني لم أطّلع على التعليمات في هذا الشأن، وضع القلم وراء أذنه، وربط ذراعيه، ونظر إلي نظرة أسى وألم، وتمتم: وبعدين؟

بعد أيام أحضرت القيود، وسلّمتهما للموظف النشيط الذي ربطهما بدبوس مع معروضي الأول، وأردف وهو يرميها بعيداً: خلص الله معك.. مبروك، القبور الثلاثة أصبحت ملكاً خالصاً لأسرتكم..

ثم التفت إلى الناس وقال خطيباً:

 لقد أصدر مكتب دفن الموتى (تحت شعار الحدّ من الاحتكار) تسعيرة جديدة للقبور في مقبرة باب الصغير.. ألف وباء وجيم.. قبر جاهز فوق وتحت ب 7500 ليرة فقط..

قلت: يا سلام..

وحاولت من باب الفهلوة أن أشتري قبراً جديداً حسب التسعيرة الجديدة.. انتحيت بالموظف النشيط جانباً وسألته أن يبيعني قبراً وله إكرامية..

لوى شفتيه أسفاً وقال: والله ما في ولا قبر.. وقبل أن أخرج أمسكني من ذراعي وهمس:

 إذا راجعت الحفّار يمكن أن يدبّر لك قبراً..

ثم أخفض صوته وقال: بس السعر أعلى شوي..

السعر الأعلى شوي يعني فوق الخمسين ألف ليرة..

قلتُ في سرّي -وأنا المتحدّث الآن-: سأكتب في ذيل وصيتي:

متى خرج السر الإلهي من صدري، فادفنوني في أرض جرداء، في ريف أبعد قرية، ولو في أقاصي الصحراء، لم تصل إلى مقابرها بعد صرعات البلاء ولا بدعة الأرقام الجوفاء.. والسلام عليكم أيها السادة الأحباء.!

ملحق..

منذ أيام حدثت حالة وفاة في أسرة صديقي، وعندما ذهب إلى مكتب الدفن لفتح القبر الفارغ المثبّت مرتين، قال له الموظف وهو يفتح أوراقاً تشبه أوراق البقال أبو إسكندر في حيّنا:

 يا سيدي هذا القبر غير مثبّت.

ضحكت، إذ يبدو أن مكتب دفن الموتى لم يسمع بعد بالأتمتة.؟ ولا بالكومبيوتر، ولا بسجل تقني ثابت لكل قبر تسجل فيه حيثيات ما يجري عليه..! على فكرة.. أبو إسكندر البقّال يفكر جدياً أن يشتري جهاز كومبيوتر خاص لتسجيل أرقام الإيصالات المدفوعة لقبور أسرته، ويسجل فيه أيضاً حسابات محله.!

العدد 1104 - 24/4/2024