كي لا يغدو الشذوذ قاعدة

ما هي القاعدة، وما هو الشذوذ؟ سؤال قد يبدو غبياً. ولو وجّه لأي شخص يمتلك حدّاً أدنى من ثقافة مدرسية ومنطق قويم، لما وجد ولا شك أدنى صعوبة في الإجابة متناولا  الموضوع إما من مفهوم العام والخاص، أو من باب الكثير والقليل. وربما استعان بأمثلة تختصر الجواب البديهي ليصل إلى أن الشاذ هو الحالة النادرة التي شذت عن سياق عام متواصل ما، يسمى القاعدة. ولكن.. لأننا في زمن انقلاب المفاهيم، فليس مستغرباً أن نسمع جواباً مغايراً في حال كان المجيب أحد مثقفي العولمة الذين باتوا نجوم شاشاتنا وصحفنا وكتبنا وأحلام يقظتنا، هؤلاء الذين احترفوا امتطاء الأمواج والصيد في الماء العكر والرائق، أو الوقوف على التلال في أحسن الأحوال، متخذين من مواهبهم في التلاعب بالألفاظ والمصطلحات غطاء  لشذوذهم، متمترسين في متاهات الجدل البيزنطي السفسطائي عند كل مواجهة بحقيقة بديهية قد تفضح زيفهم، متقنين فن  تسخيف أي حوار مهما كان جاداً عبر شعارات الشك والجدل وعدم التسليم بالمفاهيم المسبقة واحترام الرأي الآخر وغيرها، جاعلين من مفردات كالوطن والتاريخ والقيم، مفاهيم مسبقة قابلة للجدل والشك ومن ثم النقد، ومن مفاهيم الكفر والخيانة والمكيافيلية، عقائد علينا تقبّل وجود معتنقيها بيننا ومحاورتهم واحترام رأيهم (الآخر) مهما بلغ به الشطط والتطرف.

 وإذا حدث أن انتفض أحدٌ ما رافضاً مستنكراً قواعد اللعبة الجديدة ، فسرعان ما يرمى بسهام التقوقع والتحجّر وقمع الرأي الآخر، وصولاً إلى الشتم بتبني نظرية المؤامرة. أمِن باب المصادفة ألا يحلو لأولئك الخوض إلا في المفاهيم التي تعتبر هي ركائز ذاتنا وشخصيتنا وهويتنا؟ والأمثلة أكثر وأبلغ من أن تساق. ثم أليسوا هم أنفسهم من يأبَون النقاش حول أي من المفاهيم التي يعدّونها أيقونات مقدسة لا ينبغي أن تمس؟ ما الديمقراطية حقاً وما غايتها؟ ماهي الحرية الشخصية وما هي ضوابطها وحدودها؟ متى يصبح الرأي الآخر اعتداءً على الرأي (الأول)؟.. لا أجوبة، مجرد عناوين و(لوغوات) فضفاضة تصلح لكل مقام  ومقال.وهل إيماننا بثوابت الدين.. الوطن.. الانتماء.. الأخلاق، هو مجرد وجهة نظر يمنّون علينا باحترامهم الخبيث لها؟كل هذا يدعونا بإلحاح  إلى العودة إلى توضيح وترسيخ أصالة مفهوم القاعدة كقيمةٍ جمعيةٍ أخلاقيةٍ، والحيلولة دون وضعها – تحت أي مسمى – في مقام واحد مع شواذها أو إغراقها بهذه الشواذ.

العدد 1102 - 03/4/2024