الكونية كمحاولة

لا تُشكّل حركات الاحتجاج والانتفاضات الشعبية التي تجري في العالم، تغيرات مقتصرة على مستويات الدول القومية، أو المناطق الإقليمية. وبمراجعة زمنية ومنطقية لتاريخ الثورات والانتفاضات يتبين لنا سريعاً، مستوى تأثير الثورات على المستوى – الكوني – العالمي، وعلى مستوى تفكير شعوب العالم ككل.

إن أكثر التعاريف المعرفية للثقافة مصداقية تقول: (الثقافة مفهوم لا تُسيطر عليه فكرة واحدة)، وأنها دائماً مجموعة طرق لحل المشكلات المحيطة. وكيف أن للجماعات القدرة أن تعيش في الظروف المادية والنفسية التي وجدت فيها دون أي اعتبارات ثابتة. وقدرة الثقافة تبرز، بحجم تغييرها للواقع القائم. رغم ميل هذه الاختصارات إلى مفهوم الثقافة السياسية، إلا أنها تحملُ في طياتهِا تجذراً واقعياً في فهم لحظة الاحتجاج التي تحيط بالعالم، من الثورات والانتفاضات العربية وصولاً إلى الاحتجاجات على (وول ستريت). وخاصة من خلال ترقب شعاراتها وأسبابها.

في أواسط القرن العشرين أوضح (فوكو)، أن القرن التاسع عشر، (هو قرن الحاجات، والطبقات، والعمال، أما القرن العشرون فهو قرن السلطة). السلطة المطلقة على كل شيء، والنمطية الشديدة التي تحيل العالم بأفكاره ومتغيراته، إلى مآل لا بد منه، ترافق مع صياغات فكرية شديدة السلبية والسوداوية، لا ترى في العالم كله سوى صراعات منجزة، قومية وحضارية، ودينية، ولا أحد ينسى هينتنغتون، وبديهياته الفكرية والسطحية، عن رؤيته للقرن الحادي والعشرين، بوصفه صراعاً للحضارات لا أكثر، مع تغييب كبير لغايات الشعوب، بالحرية ، والأخوة، والعدالة الاجتماعية.خاصةً.

إذا ترقبنا الثورات الاجتماعية والشعبية التي أحاطت بكل تاريخ أوربا بعد عصر النهضة، فقد نرى مدى وضوح فكرة طغيان الثقافة على السياسة. الثقافة بمعناها الإنساني الذي يجمع كُل البشرية تحت مبادئ واحدة، تتلخص تاريخياً بالعدالة والمساواة بكل أشكالها، والحق بالحياة، والتعبير عن الرأي.  فبُعيد الثورة الأمريكية عام ،1776 بدأ الفلاحون الفرنسيون يُعرِّفون الشعوب الأمريكية بأنهم (مواطنون إخوة). وبعد نجاح الثورة الفرنسية صرح (روبسيير) أن (كُل شعوب العالم إخوة لنا). وحاول كانط الأخلاقي الصارم، جاهداً، وضع نظرية لحكومة عالمية واحدة تنهي فكرة الحرب والتحارب. و كان المناخ النهضوي الثقافي لكامل أوربا، يرشح بالمفاهيم الثقافية التي ترى غاية شعوب العالم، هي العيش ضمن مفهومَيْ (الحقوق والواجبات) و(المساواة والعدل)، ولن تتوقف منذ القرن السابع عشر، أي منذ ظهور نويات الدول القومية، حتى يومنا هذا، الدعوات الملحة، لتجسيد الفكر الأخوي العالمي، أو المساواة المواطنية، والإنسانية، والفردية. ما لم ننسَ السوسيولوجي الأعرق أوغست كونت الذي رأى أن علم الاجتماع ليس سوى قاعدة فلسفية تدعم السياسة لبناء عالم منظم، والتنشئة فيه مدار لتوحيد العالم بشكلٍ ما.  لكن للثورات دوماً صوتاً أعلى، فالحراك البشري في الشارع، وعلى الأرصفة، يرفع من مستوى القدرة البشرية على المغامرة والتجريب والتضحية. بالطبع ليست الثورات فقط مثل جناح الفراشة التي تحرك الريح في الهمالايا، الثورات هي قدرة الجنس البشري في الدفاع عن نفسه. وكما يقول القديس أوغسطين: (من يبحث عن الشيء، يعني أنه وجده من قبل)، فها هي ذي البشرية اليوم بتظاهرها الكوني، تُعيد إنتاج لقائها، متجهة نحو غاية البشرية بأن تكون بشكلٍ أو بآخر متوحدة في غايتها ورغبتها،وقد نصل في الزمن البعيد إلى انتماء  كوني حقيقي، تُصبح فيه آلام البشر متوائمة، تعيشها وتتبناها سويةً.

ويُطرح الإعلام بصفة خاصة هذه الأيام بوصفه مكاناً آخر ، موجوداً في كل الأزمنة. فالإعلام بحداثويته وشموليته الضرورية نمطّ البشرية، وألزمهم الاقتران به، كصفة وجود حاملة لتطلعاتهم وآمالهم. ورغم التشتت والرؤى الخفية التي تُدخل الناس في العواطف والانفعالات أكثر مما تسمح لعقولهم بالتفاعل والموازنة، إلا أنه وحَّد مدركات البشر بفعل التزامه بقيم دولية لا تستطيع المؤسسات الطبيعية والمنتجة إغفالها. وبذلك تحول الإعلام إلى أكثر مما يمكن عده إيديولوجيا توجه الناس وإدراكاتهم. وكان للأزمة العالمية الاقتصادية الكُبرى أثر واضح في ميلان الكفة تجاه الأفكار الكونية واليسارية خصوصاً، فتجارب الدولة الراعية في أمريكا الجنوبية أظهرت قدرة الدولة والمجتمع على إنتاج تغييرات على الصعيد الاقتصادي والسياسي، مما جعلها غالباً وعلى المستوى العالمي سياقاً مهماً في سبيل دعم التغيرات السياسية بطرق ديمقراطية وسلمية. وعودة اليسار إلى سدة الحكم في فرنسا أيضاً أمارة ضرورية لإعادة تأويل الإنتاجات الإيديولوجية لليسار الأوربي. والكلام ها هنا على التجارب اليسارية هام، بكون اقتران اليسار عموماً باختلافات نسبية بالرؤية الاقتصادية للعالم الاقتصادي والاجتماعي وبالتدليل السياسي.

ليست مظاهرات (وول ستريت) سوى أثر صغير، للحراك العربي، ما يؤكد أنه لا صراع على الحضارات ولا على الرغبات. ما يجمع العالم اليوم، هو الغايات الكبرى التي عرفتها البشرية وفقدتها بشكلٍ أو بآخر، ورغبة البشر الدائمة، لتغيير نوعية الحياة، التي تُعبر بلا شك، عن مفهوم ثقافي عضوي يسكن البشر. ورغم اقتناع البعض بأن على الثورات أن تحمل رؤى أكثر تجذراً بأساليب الإنتاج الاقتصادية، إلا أن الحياة الحديثة والتطور الاجتماعي لا بد أن يخضع أولاً لبعض الاعتبارات المجردة والكلية والإجرائية كالحريات العامة، والحق بالتقاضي، والتنازل عن بعض السمات الجوهرية لما قامت به الثورات في بداية عصر التنوير لن يوقف العجلة الكبيرة لماهية الثورات وتأثيراتها اللامحدودة. وعندما يتظاهر الكون بأسره ، فسيستفيق سقراط، الذي رفض دوماً أن يقول: أنا مواطن أثيني، بل قال: أنا مواطن كوني، لقد وجدت الانتفاضات العالمية ضالتها، وقد يكون وجودها في الشوارع دليلاً ما، على رفضها لأي هوية ما قبل كونية.

العدد 1104 - 24/4/2024