الربيع الحقيقي… تجديد حركة التحرر الوطن (1 من 2)

 أسقط الحراك الشعبي العربي في السنتين الأخيرتين، جملة الأوهام حول البديل الليبرالي، تبيّن أنّ مداه لا يتعدى، في أفضل الحالات، تغيير النخب الحاكمة، لا المضامين السياسية والاقتصادية والاجتماعية للحكم الذي بقي بين أيدي الفئات الكمبرادورية المرتبطة بالغرب الإمبريالي والرجعية الخليجية. لا جديد يبشر الفقراء والمستغَلين والعاطلين وسكان أحزمة البؤس والمتسربين من التعليم والمحرومين من التأهيل التنافسي. لا جديد يبشر بكسر حلقة التخلف وإحداث القفزة التنموية. لا جديد في ميدان الحقوق الاجتماعية والخدمات العامة، ولا جديد في العلاقة التبعية مع الغرب والخضوع للمشروع الصهيوني. الجديد الوحيد هو في المجال الثقافي، إذ بدأت بالفعل الهجمة على كل مناحي التنوير والمدنية، صوب شمولية ثقافية رجعية معادية لحرية العقيدة والفكر والحق في اختيار نمط الحياة الشخصي، وتقوم على إطلاق الغرائز العدوانية للعصبيات المذهبية والطائفية والإثنية من كل لون وشكل، وعلى التعصّب الأعمى ضد الاختلاف الثقافي، وعلى الإرهاب المستهدِف فرض نموذج وحيد لحياة العرب، هو النموذج الوهابي.

وليس ما حدث ويحدث في مصر وتونس ـ حيث نجح التغيير الليبرالي ـ هو انحراف عن الليبرالية، بل هو نتيجتها الحتمية في الظروف العيانية القائمة. فقد مثّل استبعاد البرنامج الوطني الاجتماعي، وبالتالي استبعاد المساس بالأنظمة الكمبرادورية السياسية والاقتصادية، الأرضية المواتية لهيمنة الخطاب الديني الإخواني السلفي المتدحرج نحو الوهابية، سياسياً، وتحوُّل قواه، بدعم أمريكي خليجي، إلى أداة جديدة، أسوأ من سابقتها، لإعادة إنتاج النظام الكمبرادوري وعلاقاته الاجتماعية الداخلية وسياساته الخارجية في السياق السابق نفسه.

لكن، في سورية، تحطمت كل الأوهام من كل الألوان. الوعي الليبرالي انزلق وذاب في وعي طائفي مذهبي رجعي، ومن ثم في وعي لا وطني وإرهابي. وهو مسار حتمي، فشعار:  (حرية) المفقَر من كل مضمون وطني اجتماعي، كان لا بد له أن ينتهي، في ظروف سورية، إلى خلق حاضنة محلية للغزو الإرهابي الأجنبي والتعاون مع أجهزة الاستخبارات الدولية، والتحوّل من موقع المعارضة الليبرالية إلى العمالة الصريحة والقتل على الهوية. والمثال  (الباهر) هنا هو انتقال مثقف ليبرالي مثل عزمي بشارة ــ يعيش تحت سلطة ممالك النفط والغاز ــ إلى التبرير الفكري الصريح للنشاط الإرهابي في سورية. بالمقابل، سقطت أوهام الفصل التعسفي بين السياستين الخارجية والداخلية، إذ تبين أنه كان من المستحيل إدامة سياسات الممانعة والمقاومة مع اتباع السياسات النيوليبرالية وسيطرة الكمبرادور على قطاعات ومجالات اقتصادية وخدمية أساسية وتعمق نظمة الامتيازات واختلاط السياسة بـ (البزنس) والفساد. كما أنّه كان من المستحيل الحفاظ على الدولة القومية المستقلة ونهجها السياسي في ظل العلاقات الانتهازية مع الغرب وتركيا والخليج. وهو ما طرح، في النهاية، الضرورة الموضوعية لانسجام الخيارات والسياسات. والتحدّي المطروح أمام سورية اليوم هو مواجهة الذات، في خيار وطني اجتماعي يذهب نحو الحدود القصوى الممكنة موضوعياً، أو الانهيار تحت ضربات الحصار والإرهاب والخروق الأمنية.

ما البديل؟

البديل بالتأكيد ليس بالعودة إلى القديم وترميمه. هذا وهم ورجعية مهما كانت الشعارات، وليس اليأس والعدمية. فهذه هي طريق صريحة لانحلال الأمة لا بالمعنى المجازي، بل بالمعنى العياني في سيناريو يتحول فيه العرب والمسلمون إلى فائض سكاني مفقَر، له وظيفة محددة في خطط الإمبريالية، هي تزويدها بالنفط والغاز وعوائدهما… وبجيوش من السلفيين الجهاديين لخوض معاركها تحت راية الإسلام السياسي. وعلينا أن نبحث اليوم جدياً في هذا السيناريو: فبسبب أزمة الإمبريالية الاقتصادية التاريخية من جهة، وبسبب مستجدات ولادة تعدد القطبية من جهة أخرى، غدت منزوعة الأسنان، وهي بالأصل لا تستطيع فرض هيمنتها على العالم إلا بالقوة فهل تجد في القدرات الإرهابية لبعض قوى الإسلام السياسي، أسنانها الجديدة؟

سؤال مطروح اليوم، وسيكون مطروحاً بقوة إذا ما نجح التدخل الإرهابي في سورية، إذ يمكن نقله، عندئذ، إلى روسيا نفسها. يعني ذلك أنّ المعركة مع الإسلام السياسي بنسخته الإرهابية أصبحت اليوم معركة كونية. ويخوضها الجيش العربي السوري، لا دفاعاً عن مستقبل سورية والمشرق والعرب فقط، وإنما يخوضها دفاعاً عن مستقبل التقدم العالمي أيضاً.

نحن نقترح لسورية والمشرق والعرب، بديلاً تاريخياً مختلفاً يقوم على إعادة بناء الذات في مشروع تنموي وطني يحقق الخبز والكرامة الإنسانية والقومية والعدالة الاجتماعية والحرية، في ربيع مختلف، عماده تجديد حركة التحرر الوطني.

وللمفارقة، فإنّ صحافياً ليبرالياً يعمل أيضاً تحت سلطة الخليج، لكنّه من أصول مثقفة، هو حازم صاغية، يستذكر في مقالة له في صحيفة  (الحياة)، عدّة عناصر داعمة للرئيس بشار الأسد، يرى أنها من بقايا  (التحرر الوطني). وهذه عنده، بالطبع، قرائن إدانة جديدة لمخلفات ماضٍ يظنه انتهى ويلفظ أنفاسه الأخيرة تحت معاول إرهابيي الوهابية. لكنها، عندنا، قرائن على موجودات يمكن البناء عليها. لا شيء، عند صاغية، يستحق النقاش. فخطابه قائم على ما نسميه في الأردن  (تخنيث الهرج)، أي جعل الحديث خنثى وتسطيحه وتتفيه مضامينه ومراميه وتحويله إلى ثرثرة. لذلك ننتقل إلى مباشرة حوار جدي نرجو أن يجد، في صفوف المثقفين الوطنيين، صداه الذي يستمد ضرورته من الضرورة التاريخية الراهنة لبناء حركة وطنية اجتماعية جديدة في المشرق.

لماذا المشرق؟

أولاً، لأن الصراع في سورية أظهر حقيقة رئيسية آن لنا أن نضعها على أجندة البحث. وهي تتمثل في الترابط العضوي القائم بين سورية ولبنان والأردن وفلسطين والعراق. لقد تبيّن أنّ لهذه البلدان الخمسة فضاء سياسي واحد، إذ إنّ الصراع في الجمهورية العربية السورية، انتشر على شكل انقسام حاد شمل بلاد الشام كلها، وعطّل السياسة الداخلية فيها، وأرخى بظلاله العميقة على العراق، وأعاد تموضع هذا البلد المركزي كقوة مشرقية سوف تتعاظم رؤيتها لنفسها خارج السياقين، الخليجي والإيراني، معاً.

ثانياً، لأنّ عناصر التركيب المجتمعي التعددي، وتداخلها وتعقيداتها تتشابه، بل تمتد بهذا القدر أو ذاك، بين الأقاليم المشرقية، بحيث يصعب، لأي منها، النأي بالنفس عما يحدث لدى الجيران.

ثالثاً، لأنّ التراث الثقافي السياسي، رغم الخصوصيات المحلية، يتلاقى في عناوين واتجاهات كبرى، تميّزه عن الخليج من جهة، وعن مصر من جهة أخرى. وسأتوقف، هنا، عند ملمحَيْن ظاهرين: فالعشائر العربية في ثلاثة بلدان رئيسية من الهلال الخصيب هي: سورية والعراق والأردن هي، رغم الاختلافات، تتموضع في سياق ثقافي تراثي سياسي واحد إزاء عشائر الجزيرة والخليج. وتمثّل عشائر الهلال، تاريخياً، عمود العرب، بينما يمثّل مسيحيو بلاد الشام دينامو العروبة. ولا تجمع هؤلاء ـ الذين استعادوا، في حمأة الصراع السوري، نظرتهم إلى أنفسهم كجسم مشرقي واحد ـ مع أقباط مصر، أية روابط روحية أو تشابهات مجتمعية أو ثقافية أو سياسية.

رابعاً، يمثّل الصراع مع إسرائيل قضية مركزية تقع في قلب الفضاء السياسي للمشرق (بينما تبين أنها قضية يمكن تحييدها، واقعياً، في مصر) ويقع المشرق وحده، أيضاً، بين فكّي العلاقة الملتبسة مع كل من تركيا وإيران.

خامساً، إنّ قوى التحرر الوطني في مرحلتها السابقة من لحظة النهضة الأولى إلى الشيوعية العربية والقومية العربية والسورية والبعث والفصائل الوطنية الفلسطينية والعراقية واللبنانية، عرفت نشأتها الأولى وإنجازاتها الفكرية والثقافية والسياسية في المشرق أصلاً.

سادساً، القوة الباقية من المرحلة السابقة للتحرر الوطني تتمثل اليوم في الدولة السورية التي سوف يمثّل انتصارها على الغزو الإرهابي الدولي، محطة تاريخية بالنسبة إلى كل بلدان المشرق، سواء لجهة المواجهة مع الخليج وإسرائيل أو لجهة إعادة تعريف العلاقة مع تركيا وإيران أو لجهة اكتشاف الذات المشرقية في مشروع وحدوي، وخصوصاً في مجاَلْي التنمية والدفاع.

التحرر الوطني: المفهوم والحركة

التحرر الوطني مفهومٌ مركّب، فهو يتضمن من جهة أولى التحرر من الاستعمار و(أو) السيطرة الإمبريالية و(أو) التبعية السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية للمراكز الإمبريالية. ويتضمن، من جهة ثانية، التحرر من شروط التخلف الداخلية المعرقلة لنموّ قوى الإنتاج والتشغيل والتنمية المستقلة المتعاضدة داخلياً، أي الاعتمادية المتبادلة بين القطاعات الاقتصادية المحلية والسيطرة على العلاقات الخارجية وفق معادلة التعاون وتبادل المصالح لا وفق المعادلة الكمبرادورية. ويتضمن، من جهة ثالثة، التحرر من العلاقات الطبقية القهرية والامتيازات التي تعرقل التقدم. (والجملة الأخيرة ليست وصفاً لتلك العلاقات التي ستظل قائمة لحقبة ربما تطول. لكن لما يعرقل التنمية والتشغيل منها)، ويتضمن، من جهة رابعة، التحرر من إرث الثقافة القروسطية، كالطائفية والمذهبية والجهوية وكذلك الامتثالية السياسية (التي فشلت الأنظمة الاشتراكية والتقدمية في دحرها، بل أكدتها وعممتها)، والانتهازية الفردية وعقلية الربح والتربح ومعيارية الثراء المادي والفقر الروحي والعقلية الاستهلاكية والحط من قدر النساء.. إلخ. ويتضمن، من جهة خامسة، النظام الديموقراطي الاجتماعي المنفتح نحو الاشتراكية. ويتضمن هذا النظام، آليات ضريبية وسواها من الآليات التي تتيح الإعادة المنظّمة لتوزيع الثروة على المستوى الوطني، والتنمية المتوازنة للمراكز والأطراف، والمساواة في الفرص الاقتصادية، وشمولية التعليم والتأهيل والثقافة والرعاية الصحية والطبية المجانية واللائقة، وتمكين الأسر من السكن اللائق والخدمات (الماء والطاقة) وشبكات المواصلات المنظمة والرخيصة الخ. ويتضمن، من جهة سادسة، التمكين القانوني والواقعي للفرد، رجلاً كان أو امرأة، من اختيار نمط الحياة الشخصي المتحرر من كل قيد شرعي أو اجتماعي وصيانة حقوقه الإنسانية في إطار قانون مدني ليبرالي. وهذه هي المساهمة الوحيدة اللازمة من الليبرالية في فكر التحرر الوطني. وفي ما يخص حركة التحرر الوطني العربية، فقد وجدت نفسها، إضافةً إلى المهمات المطروحة على شعوب العالم الثالث في العرض المار ذكره، في مواجهة مهمتين: الوحدة بوصفها مهمة أساسية لتحقيق التنمية المستقلة، ومواجهة إسرائيل بوصفها قوة تدخل إمبريالية. من دون أن ننسى، بالطبع، اغتصابها بلداً عربياً وتشريدها للفلسطينيين. هنا سؤال رئيسي بالغ الأهمية واجه ويواجه فكر وممارسة حركة التحرر الوطني العربية: هل الصراع مع إسرائيل، أم القضية الفلسطينية ما يمثل المسألة المركزية؟ يقود الشق الأول إلى مواجهة مصيرية مع الصهيونية والإمبريالية، بينما يقود الشق الثاني إلى إمكان التفاهم معهما لتسوية  (عادلة) للقضية الفلسطينية يمكن أن تشرف عليها الولايات المتحدة وتقود إلى السلام مع إسرائيل؟

واقعياً، تصاغر السؤال ـ على المستوى المصري ـ إلى ما يلي: القضية الفلسطينية أم استعادة سيناء فوراً بالسلام وتلافي المجهود الحربي؟ ثم انزلق السؤال إلى: القضية الفلسطينية أم المصالح المؤقتة للنظام الأردني؟ بل وحتى القضية الفلسطينية أم مصالح الفلسطينيين؟

للإنصاف، ينبغي القول إن السياسة السورية بقيت، من حيث مضمونها، تمنح الأولية للصراع مع إسرائيل كقضية مركزية، وليس حل القضية الفلسطينية أو حتى استعادة الجولان سلمياً. وهذه السياسة هي عنصر من العناصر الباقية الصلبة للتحرر الوطني في سورية.

من المفهوم إلى الممارسة، يتطلب التحرر الوطني إزاحة الفئات المسيطرة في القطاعات الاقتصادية الرئيسية (المال والعقارات والزراعة والتعدين والطاقة والنقل والاتصالات…) وإحداث قطيعة مع كل النشاطات ذات الطابع الكمبرادوري في كل المجالات، وإنهاء دور القطاع الخاص في الخدمات المدنية، وخصوصاً التعليم والطبابة. وكل ذلك وسواه سوف يؤدي إلى صدام مع القوى الاجتماعية المتضررة وحلفائها ونخبها السياسية والإعلامية والثقافية إلخ. ومن المضحك التفكير في حل هذا الصدام الداخلي المركّب على صدام خارجي مع القوى الإمبريالية وحلفائها، بوسائل الديموقراطية الليبرالية الانتخابية. إنّ التماسك الفكري والجدية السياسية يدفعاننا إلى التصريح بوضوح صارم بما يلي: إنّ التحرر الوطني غير ممكن إلا بالدكتاتورية ضد الفئات الكمبرادورية والرجعية.

الدكتاتورية؟ يا للهول! سوف تنزل على رأسي اللعنات! لكن لنسمِّ الأشياء بأسمائها.

ماذا في مصر، مثلاً، غير دكتاتورية تحالف الكمبرادور والعسكر، المرتبط بالاستعمار الأمريكي. وسواء استخدم هذا التحالف حسني مبارك أم محمد مرسي فالأمر في النهاية سِيَّان: الحريات المسموح بها هي تلك التي لا تهدد مصالح التحالف الحاكم، والانتخابات ـ سواء المزورة بالإدارة أم بالرشا ـ ينبغي أن تدور على الملعب الكمبرادوري العسكري. بالمقابل، الدكتاتورية الوطنية الاجتماعية المعبرة عن مصالح الكتلة الشعبية من العاملين بأجر والكادحين في مُلكياتهم الصغيرة، سوف يكون لها ملعبها الديموقراطي الحقيقي، انتخابات تنافسية بين قوى التحرر الوطني وحريات التنظيم السياسي والنقابي والاجتماعي للكادحين وصحافة مهنية حرة من الرقيب ومن التمويل البرجوازي معاً.

إنها دكتاتورية، لكن ضد الفقر والتهميش ـ لا ضد الفقراء والمهمشين ـ إنها دكتاتورية الديموقراطية الاجتماعية التي ستمنع، بقوة القانون، أيَّ مساس بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية للأغلبية الشعبية، دكتاتورية ضد الكمبرادور والسياسات النيوليبرالية والامتيازات الطبقية. دكتاتورية تؤمّن الدور القيادي للقطاع العام الاقتصادي والخدمي. دكتاتورية ضد الفساد والفاسدين والإثراء غير المشروع والتهرّب الضريبي… إلخ. دكتاتورية ضد التمويل الأجنبي وشبكات التعاون مع القوى الإمبريالية والرجعية. لكننا نؤكد، هنا، على أن الدكتاتورية الوطنية الاجتماعية سوف تتعفّن إذا لم تكن دكتاتورية ديموقراطية تنبذ الاستبدادية الفردية والسلطوية وتحافظ، تحت أقسى الظروف، على حصانة حقوق الإنسان وكرامته.

والتحرر الوطني غير ممكن من دون السيطرة على مجال العلاقات الخارجية، وإخضاعها للمصالح الوطنية. وهو ما يعني الصدام مع القوى الإمبريالية. وبالنسبة إلى حركة التحرر الوطني العربية، فإنها لا تستطيع تلافي الصراع الحتمي مع الرجعية والصهيونية. وفي الممارسة، ينبغي خوض ذلك الصراع بأعلى قدر من الحكمة والتصميم معاً، وفق حسابات دقيقة لموازين القوى، لكن من دون التخلي، لحظة واحدة، عن المنطق الصراعي مع الأنظمة الخليجية وإسرائيل.

عن «الأخبار» اللبنانية

العدد 1102 - 03/4/2024