من القسر إلى الارتباك

فُرز واقع الفئات العربية من جديد، الحراك العربي الذي هو (ربيع)، بدلالة تكفيه أن سمح للمجتمع بساحة كبيرة للتعبير، وإن اختلف الناس على الأصوات ومدى الأصوات، وعلو ركب بعض الأصوات.. نحن في مساءلة كبيرة عن تاريخنا، وتاريخ فهمنا وبصيرتنا.

الواقع العربي اليوم فائض الصورة والعطاء والمركب. هو واقع أسطوري من حيث الغرابة والنزعات والميول والتناقضات. لكنه، في غالبه، حركة وافتعال ونتائج، أي عناصر علم اجتماعي مكثف، وتخضع معايير المشاركة والانفتاح فيه إلى رقابة اجتماعية وثقافية فقط، ويُشكل الحيز الديني عوائق جلية ومربكة، إلا أن الحراك يمضي نحو الحقوق.

يرتبك الشاب هذه الأيام، ومازال الصراع على السلطة في الوطن العربي ذا شكل ارتقائي، يعتلي على الناس ومشاكلهم، فما بالك بفئة الشباب؟ كلف الاستبداد العرب كثيراً، وقد جمد أواصر التفكير والتفاعل فيما بينهم، وجعل التواصلية اليومية (الاجتماعية) بالأخص مفعمة بالسكون والتخلف. التخلف من جهة انتمائه إلى المكتسب الشعبي التاريخي، لا المصلحي الغائي المركب. هو بسيط من ناحية عقلانيته ومردوده، لكنه معقد من حيث تداخلات القيمة والتفاعل والوجود. هو فارق قياسي بين مجتمع ينتظم دورانه حول دولة اجتماعية، ومجتمع يدور حول نفسه فقط مع سقوط أي وازع رقابي أو اجتماعي أو أخلاقي. فساد الدولة العربية وتركيبها الأمني المريب والشائك حوّل المجتمع إلى مساحات من الخوف والحذر، وتجدَّر الخوف بتعقيدات منفلتة ضابط سلوكي أو سيكولوجي.

المساحة المفتوحة بعد الحراك معقدة أيضاً، فالحريات الفردية تخضع لمنافسة المنتج الإسلامي المتكاثر والراسخ في جذور اللاوعي العربي. فما بين الليبرالية الشبابية المنفتحة والشابة والحداثوية واليسارية، وما بين شارع إسلامي أكثر استقطاباً للفئات، تدور معركة غريبة بين الأفكار والتمظهرات والأشكال. التعقيد يبلغ على قاعدة الحريات والحقوق، ويُعتب على الحركات الشابة الحداثوية بأنواعها عدم تسليط الضوء جيداً على أمرين هامين: أولهما الانفتاح على القضايا اليومية، كالبطالة والعمالة المنفلتة، الأمراض، الأوبئة، مشكلات الزراعة، حقوق العمال، تسلط فئات في السلطة، التعليم، صحة المستشفيات وأجهزتها… والآلاف من المشاكل التي عممها الاستبداد على المجتمع ، وجذرها في المشاكل اليومية للمواطنين.

الحق في القول إن أدوات التغيير كثيرة ومربكة أيضاً، لكن هناك خروجاً حقيقياً من فكرة الاستبداد وتجلياته الأشنع. فالارتباك لدى الشباب بدأ يظهر، والنقد والسخرية أصبحا من أهم المتابعات لدى جمهور المواطنين. بخلاف الاعتماد الشائع على النكتة المخفية، كمجال مرضٍ للنقد.

أعتقد أن الرقابة على الشباب العربي هذه الأيام متأخرة ، فالشباب هم من فجروا الحراك، ومن استشهدوا فيه بداية، ومن علقوا آمالهم على النجاة في زمن الجنون والعسف العنفي للأجهزة الأمنية العربية كافة.

لم تكن المواجهة أو التفكير في المواجهة أمراً سهلاً، هناك مجازفة تاريخية استطاع الشباب العربي القيام بها، فالدخول في أتون صراع مع سلطات أمنية وذات عقل أمني كان إنجازاً، وهو مشروع تغيير كبير أقامه الشباب العربي. التغيّرات عمومية، فالحركات الاحتجاجية اليومية للبطالة هامة جداً ، وتُشكل مشكلةً لحكومات ديمقراطية، وحتى الإعلام بشكله الحديث يُشكل ذراعاً قاسياً على ظهر المخطئ والفاسد. إذاً القضية قضية حريات الناس يعونها، وخاصة الشباب.

لا يوجد بعد اليوم حق لا يمكن المطالبة به، والعودة إلى الوراء صعبة، فمن بحث عن وجوده لن يعود إلى غياهب العدم، فكيف إن استطاع إدراك وجوده؟

إدراك الوجود هنا هو إدراك للحق في تملك الشيء بكل أبعاده، تملك الحق في التصور العام ، والبصيرة العامة كاستعداد للتدخل في الشأن العام. لا أعتقد أن هناك خسارة في كل (الربيع العربي)، وكل مشكلة فيه هي من طبيعة ما. فالأربعون عاماً العربية من الاستبداد كارثة سترافق أجيال الثورة غالباً. لكن التغيير أكثر من حقيقي. لأنه أظهر طاقات مغيبة وإبداعات نائمة، ومطامح ورغبات جديدة. بخلاف الاستبداد الذي رأينا فيه كل أشكال القهر والعسف والحزن. قد لا ينتفي الخطأ في (الربيع)، لكن الأبهى قدومه، ومساحة الأمل فيما قد يعمره. التعقيدات ماثلة وحقيقية، لكن التركيز على صورتها الأمنية والسلفية غبن شديد، وصيد في الماء العكر. السمات الأدق هي الانفتاح والتنافس السياسي الذي بدأ يتطور شيئاً فشيئاً. من يظن أن الثورات كاصطياد السمك فهو مجحف ورغبوي، الثورة هي التفكير في فشل كل شيء تقريباً، هذا من جهة من يريد أن يرى كل اختلال في الحياة اليومية هو من مخاطر الثورة.

التغيير الثوري هو الوحيد الذي يخضع لتسلسل مفتوح. لكن الثورة هي التي تغيرنا لا غيرها.

العدد 1104 - 24/4/2024