القلب الأخضر للماركسية (1 من 2)
إذا استمرت الأنظمة الرأسمالية في قيادة البشرية على الأرض، واستمرت في إنتاج كل هذه السموم والأسلحة المدمرة للإيكولوجيا المشتركة للشعوب، وإذا استمرت الآلات الذكية في ابتلاع كل هذه الموارد وإنتاج المواد ذات التأثير السلبي الخطير، وإذا تأخرت ثورة الكادحين لنقل سنين طويلة أخرى، فالأكيد أن الطبقة العاملة لن تجد الكوكب الذي تقيم عليه ثورتها الأممية.بله أن تجد في البروليتاريا العالمية بعد سنين طويلة من استنزاف الرأسمال البرجوازي ذاته للأسس الناظمة للتوازن الإيكولوجي آذاناً مصغية إلى تناقض الرأسمال والعمل، أو إلى صراع البروليتاريا وأرباب العمل. إذ تظهر انشغالات جديدة وجدية طبعاً تؤثث التناقضات الجديدة التي هي سمة مميزة في الفترة الراهنة للنظام الرأسمالي. وتؤسس لانشغالات جديدة أساسها الصراع بين الطبيعة والإنسان، بين بقاء الجنس البشري والانقراض. هذا طبعاً إلى جانب الصراعات الاجتماعية المعروفة تاريخياً.
ماركس والبيئة
لا يمكن تصور تحولات تاريخية في جوهر الأنظمة الاقتصادية والسياسية لضرورة بيئية فقط، ولا هذه التحولات طبق علائق سوسيوإيكولوجية إلا بصعوبة بالغة. ومرد هذا إلى أن الماركسية تمر في الفترة الراهنة بمرحلة دقيقة في تاريخ تطورها. أساسها المجهودات الفكرية والعلمية الكبيرة التي تنتظرها لتحليل أنماط الإنتاج الليبرالي الآن وغداً. وإبراز تناقضاتها الراهنة بصدد علاقات الإنتاج وتأثير هذه العلاقات على تشكل الطبقات الاجتماعية.وتشكل القضايا الجديدة لانشغال الوعي الطبقي. وتأثير ذلك كله على مستقبل الإنسانية ومستقبل الجنس البشري عموماً.
فالماركسية لم تنشغل بالبيئة قدر انشغالها بالفلسفة المادية والاقتصاد السياسي. ربما لأن رأسمالية القرن التاسع عشر لم تتطور آنذاك إلى الحدود التي يمكن أن تهدد فيها الجنس البشري بأكمله بالفناء.وهذا لا يعني أن ماركس وغيره من القادة الشيوعيين الذين نظروا إلى السعادة الإنسانية، تحاشَوْا بجفاء صلد الأرض، والطبيعة، ومجمل الكوكب والمجالات الحيوية لاستمرار وجود الكائنات. إن الماركسية نظرية حمراء (ثورية) بكل تأكيد، لكن بفؤاد أخضر. وهذا ما سنبينه في صلب هذه المقالة.
ربما وجبت العودة، لمجرد غرض إجرائي، إلى ذلك التقسيم الإجرائي الشهير لكارل ماركس بخصوص مراحل نشوء التشكيلة الرأسمالية في الفترة التي عاشها. فقد رأى أنها مرت بثلاث مراحل أساسية هي:
1 مرحلة التمهيد: التي بدأت في ستينيات القرن الخامس عشر، واستمرت زهاء مئة وأربعين عاماً.
2 مرحلة الشباب: فيها تكونت السوق العالمية وتكاثرت المانيفاكتورات ودامت نحو مئة سنة.
3 مرحلة النضج: فيها ظهرت المكننة مكان المانيفاكتورا. والصناعات الضخمة وحدثت ثورة في الإنتاج الصناعي والزراعي وشهدت انقلاباً كبيراً في العلاقات الاجتماعية وفي علاقة المدينة بالريف. ودامت هذه المرحلة ستين سنة انتهت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.(1)
ليس من السهل تحديد المرحلة الرابعة لنشوء التشكيلة الرأسمالية، ولكن الأكيد أن ثمة سمات جديدة ميزت النصف الأخير من القرن التاسع عشر إلى الآن. إذ مع التقدم الهائل للتكنولوجيا في الفترة المعاصرة ولد على نحو صادم طغيان الآلات الذكية (الغبية إن شئتم)، وانسحبت آلة واط البخارية، كما انسحبت الميكانيكا لصالح الأوتوماتيزم. وأصبحت مواقع الإنتاج الرأسمالية غير محتاجة إلى عمال بوزرات بيض لتعويض ذوي الوزرات الزرق فحسب، بل أصبحت الحاجة ملحة إلى عمال من صنف خاص: عمال يمتلكون (العقل الذكي) لمواكبة ثورة الأتمتة. نشأ عن الوضع الجديد للرأسمالية ولسرعة الإنتاج الأتمتي حاجة ملحة أكثر فأكثر المواد الخام من جهة وحاجة أخرى إلى الأسواق أكثر أتساعاً لتصريف السلعة بأقصى سرعة ممكنة. نتج عن الثانية المزيد من تحرير السوق العالمي (العولمة في حلتها الهمجية)، وعن الأولى الخطر الإكولوجي وتدمير الكوكب.
لم يكن ماركس بالطبع يقصد الآلات الذكية التي تؤثث فضاء الفابريكات في عصرنا، وهو يحدد المرحلة الثالثة والأخيرة لتطور النظام الرأسمالي. لقد كان واضحاً في تحديد الآلات التي استعملتها الصناعات الكبرى في ذروة العصر البخاري. ففي كتاب (الرأسمال) إنما يقصد بالماكنات الحديثة الآلة البخارية التي سجل براءة اختراعها الإسكتلاندي جيمس واط عام 1769 ومجمل المكنات التي تناسلت عنها). لقد تحولت هذه الذروة للحكمة الحرفية إلى غباء رهيب، منذ أن اخترع الساعاتي واط المكنة البخارية، والحلاق أركرايت مكنة الغزل، وعامل الصياغة فولتون المركب البخاري). (2)
على الأرجح لم تكن الصناعات المرتكزة إلى المجهود العضلي والآلة البخارية قد أظهرت في عصر ماركس تهديداً عظيماً للبيئة، كما نرى في القرن الحادي والعشرين. ولم يكن لها أن تصل كذلك إلى مستوى تهديد العنصر البشري بالانقراض. والصحيح أن تأثيرها كان واضحاً على الطبقة العاملة: الأطفال والنساء بالخصوص، الفئتان اللتان عانتا الكثير بسبب شروط العمل الاجتماعية والصحية، ولنقل الإنسانية بشكل عام. وقد أفرد ماركس فصولاً كاملة لذلك في الرأسمال. نورد هنا نصاً حزيناً يصف أوضاع الأطفال ما دون السنة الثالثة عشرة في مانيفاكتورة لصنع أعواد الثقاب بإنجلترا وتأثير ذلك كله على البيئة الصغرى لاشتغال الورشات الصناعية:
إن نصف العمال هم من الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 13سنة، والأحداث الذين لم يبلغوا بعد 18سنة. وهذه المانيفاكتورة معروفة بتأثيرها الضار على صحة العمال وظروفها الكريهة. إذ يعمل فيها القسم الأكثر بؤساً فقط من الطبقة العاملة الأرامل شبه الجائعات(…) الأطفال المرتدون الأسمال الرثة، والذين يكادون يموتون جوعاً، والمتروكون لتحكم القدر، والمحرومون من أية تربية. (…) وهناك العمل الليلي والتغذية غير المنتظمة، التي تتم بقسمها الأعظم في مباني المشاغل نفسها المسممة بالفوسفور.
ولو أن دانتي شاهد ذلك لوجد أن هذا الفرع من المانيفاكتورة يفوق أفظع لوحات الجحيم الرهيبة التي رسمتها مخيلته) (3). إن فكرة النص (وهي الفكرة السائدة في الدراسة كلها) ترصد تأثير العمل المأجور واستعمال الآلة، والرغبة في امتصاص أكبر قدر من عرق العامل لإنتاج أكبر قدر من القيمة الزائدة على حساب الشرط الاجتماعي والصحي والتربوي للعمال، لكن النص لا يخلو أيضاً من إشارات بيئية واضحة لمادة الفسفور، وإن كان ذلك في حدود التأثير الجانبي لهذه المادة على الصحة العامة للشغالين في العصر ذاته.
في نص آخر أيضاً يعدد ماركس آثار الصناعات على العمال الصناعيين والزراعيين، ويستشرف الآفاق البعيدة لهذا التأثير ويحدده في التهديد المباشر والصريح الذي تختزنه الصناعات للجنس البشري، يقول ماركس:
(ومن جهة أخرى تدل خبرة المتأمل الممعن الفكر على أن الإنتاج الرأسمالي الذي ولد البارحة فقط من وجهة نظر تاريخية، قد قوض بسرعة وعمق قوة الشعب الحيوية من الجذور. وكيف أن انقراض السكان الصناعيين لا يتباطأ إلا بفعل الابتلاع الدائم لعناصر الريف الحيوية البكر(…)والرأسمال الذي يملك مثل هذه المبررات(الجيدة) لإنكار آلام جيل العمال المحيطة به، لا يهتم في حركته العملية باحتمال انحطاط البشرية في المستقبل وهلاكها المحتوم في نهاية المطاف، سوى اهتمامه باحتمال سقوط الأرض على الشمس لا أقل ولا أكثر). (4)
فكرة ماركس عن هلاك البشرية المحتوم، وهي فكرة تربط جدلياً بين التهديد الرأسمالي المباشر للعمال الزراعيين والصناعيين من جهة، وبين تهديد الصناعات في المدن للمجالات الحيوية بالبوادي (الطبيعة والإنسان) من جهة أخرى، وبين تهديد الرأسمال للجنس البشري من جهة ثالثة، يستوجب الكثير من الاهتمام من طرف الماركسية الراهنة.
إحالة ماركس في (الرأسمال) على الدراسة التي أنجزها الألماني يوستوس فون ليبييغ (1803 -1873) (الكيمياء العضوية في تطبيقاتها على الزراعة والفيزيولوجيا)، تظهر إلى مدى تفهمه العواقب الفظيعة لتطور الرأسمال في صيغته الاستغلالية على الإيكولوجيا. لقد انتقد ليبيغ بحرفية علمية عالية الإمبريالية البريطانية في موضوع المسألة الزراعية في البلدان التابعة إلى درجة جعلته يثبت بالملموس العلمي أن إنجلترا كانت تسرق الخصوبة (نعم الخصوبة) من أراضي البلدان المستعمَرة، أو من الأراضي التي كانت تستغلها لإنشاء الضيعات الفلاحية الواسعة. وكان إعجابه بفون ليبيغ جعله يراسل فردريك إنجلز سنة 1866 معرباً عن رغبته في دراسة الكيمياء الزراعية في ألمانيا نظرا للجانب الجديد التي ينفرد به (التأثير الإيكولوجي) على الدراسات الجديدة. كما رأى ماركس في إحدى الإحالات أن فون ليبيغ أحد المصادر الأساسية التي اعتمد عليها في نقد الاقتصاد السياسي. وقد استخلص الدكتور ثامر الصفار (دكتوراه في هندسة البيئة، باحث ماركسي) في مجهوداته الدراسية الهامة (حول الماركسية والإيكولوجيا) ثماني نقط حددها ماركس في المجلد الأول والثالث.تتناول الأثر المدمر للرأسمال الموظف في الصناعة والزراعة على الجانب الإيكولوجي للزراعة ذاتها. سنلخصها كالتالي:
1 مسؤولية النظام الرأسمالي عن اختلال التوازن بين الطبيعة والإنسان في العلاقة التبادلية (الأيضية).
2 يتطلب هذا ترميماً نظامياً لهذه العلاقة.
3 إن نمو الزراعة الواسعة والتجارة البعيدة المدى سيوسعان من اللا توازن.
4 إن ضياع خصوبة التربة يجد انعكاسه في تلوث المدن.
5 تشارك الصناعة والزراعة الممكننة في تدمير التوازن البيئي.
6 يمثل هذا تعبيراً عدائياً بين المدينة والبادية في ظل النظام الرأسمالي.
7 استحالة قيام زراعة عقلانية في ظل النموذج الرأسمالي.
8 الحاجة إلى تنظيم العلاقة الإيضية بين البشر والطبيعة في المستقبل.وهي إشارة إلى المجتمع الاشتراكي أو الشيوعي.
نقلاً عن (مركز الدراسات والأبحاث الماركسية)
مراجع:
1 إحالة إلى: د.ثامر الصفار (الماركسية والإيكولوجيا..نظرة تاريخية) غشت.2005
2 ك.ماركس: (الرأسمال) مج1. دار التقدم.موسكو.ص:705
3 نفس المصدر.ص:387
4 نفس المصدر.ص: 387