من ثنائية النظام المعارضة إلى وحدة الحركة الوطنية السورية

شهدت دمشق، أخيراً، حراكاً سياسياً مكثفاً، تمثل في عقد مؤتمرين لقوى المعارضة الوطنية: (المؤتمر الوطني لإنقاذ سورية) في 23 أيلول، و(مؤتمر قوى التغيير الديموقراطي السلمي) في 26 أيلول 2012. وفي المؤتمرين، وعلى هامشيهما، ظهرت مواقف متمايزة، ظهّرتها الخطابات والمقابلات والتصريحات.

ويمكننا القول إنّه توضحت، من الناحية الفكرية لا التنظيمية، أربعة مواقف رئيسية، أحددها هنا انطلاقاً من تحليل النصوص، وليس من خلال أي انحياز سياسي أو شخصي، كالتالي:

(1) موقف (هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديموقراطي)، المشوّش نفسياً وفكرياً وسياسياً.

(2) موقف هيثم مناع، الأخلاقي والمضطرب سياسياً.

(3) موقف (جبهة التغيير والتحرير)، الواقعي العملي.

(4) موقف فاتح جاموس، اللينيني بامتياز

وتلخّص هذه المواقف (التي سأتناولها في المقالة أدناه) لوحة المعارضة الوطنية السورية، لكنّها لا تلخّص الحركة الوطنية السورية التي تضم أيضاً حزب البعث الحاكم وحلفاءه التقليديين، فيما كان يُعرَف ب(الجبهة الوطنية التقدمية)، وقوى مجتمعية ومهنية وعشائرية، ليس لها بعد تمثيل سياسي مستقل، ولكنها تعبّر عن حساسيات مستقلة، والعناصر الفنية والإدارية النظيفة من بيروقراطية الدولة السورية ومؤسساتها، إضافة إلى الجيش العربي السوري الذي لا يمكن النظر إليه كمؤسسة مهنية فقط، إذ هو بالأساس مؤسسة وطنية وعماد الدولة.

أعضاء شبكة النيوليبرالية والفساد في النظام، كما الإخوان المسلمون وحلفاؤهم من العناصر التكفيرية والإرهابية وسواهم من عملاء التحالف الغربي التركي الخليجي، ليسوا جزءاً من الحركة الوطنية السورية. كذلك الحال بالنسبة للأجهزة الأمنية التي لا بد من إعادة هيكلتها على أسس أمنية مهنية، ووقف تدخلها، نهائياً، في الحياة السياسية. ووفقاً لهذا التوضيح، فإنّني أدعو القوى اليسارية والقومية العربية إلى مبادرة تتضمن ما يلي:

أولاً، دعوة أطراف المعارضة الوطنية إلى الاصطفاف في إطار ديموقراطي واحد، يؤمّن التعددية الفكرية والسياسية، ولكنّه موحّد إزاء الغزو الغربي التركي الخليجي لسورية.

ثانياً، وعلى هذا الأساس، الانتقال من مفهوم (المعارضة الوطنية) الفائت وغير المطابق للاحتياجات الوطنية السورية الراهنة والملتبس مع مفهوم (المعارضة) الخائنة، إلى مفهوم الحركة الوطنية السورية.

يتحمّل حزب البعث الحاكم، المسؤولية الرئيسية عن تدهور الوضع السوري، ذلك أنّ القمع المنظّم الطويل المدى للتعددية السياسية في سورية، أدى إلى تكوين تشوّهات عميقة، فكرية ونفسية وسياسية، لدى الأحزاب والشخصيات المعارضة، وأتاح الفرصة الواقعية للنشاط الديني كملجأ وحيد للتعبير عن الذوات المسحوقة والممنوعة من التعبير السياسي في المجتمع. وقد رافق ذلك على طول الخط تعاظم قوة الفساد وانتشار مؤسسته التي استولت، في ظل الرئيس بشار الأسد، على مجالات القرار الاقتصادي الاجتماعي، وفرضت على الدولة والمجتمع، سياسات نيوليبرالية متوحّشة كان من شأنها إفقار وتهميش الأغلبية الشعبية.

كل ذلك لم يهبط من السماء بالطبع، بل تكوّن نتيجة سياسات اتبعها النظام السوري، وهو يتلقى اليوم، مع المجتمع والدولة، نتائجها. لكن بالمقابل، لا بد من الاعتراف بحقيقتين:

 أولاهما: أنّ نظام البعث، رغم كل شيء، حقق إنجازات اقتصادية وتنموية لا مجال لإنكارها، خصوصاً بالمقارنة مع مصر مثلاً.

 وثانيتهما، أنّ نظام البعث لم يركع، حتى في أسوأ الظروف، أمام الولايات المتحدة وإسرائيل، وأنّه حافظ على سياسات خارجية مستقلة، وعظّم الدور الإقليمي السوري، وسار دائماً، في نهج دعم المقاومات العربية. ولذلك، من غير الممكن، موضوعياً، إخراج نظام البعث من إطار تجديد الحركة الوطنية السورية، على أن يكون جزءاً من هذه الحركة، لا (كلها).

يتطلب ذلك من (هيئة التنسيق)، التراجع عن برنامج إسقاط النظام، بالمقابل، على النظام أن يعترف، صراحة، بالمسؤولية عن أخطائه في إدارة الدولة والاقتصاد الوطني، والاعتذار عنها، وتحرير نفسه من العناصر الفاسدة، والمبادرة إلى إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية، مهنياً، لمواجهة الاختراقات الاستخبارية الأجنبية والتنظيمات الإرهابية، لا لمواجهة التعددية السياسية.

فقد النظام السوري، موضوعياً (بسبب أخطائه المتراكمة ونتائجها الكارثية) وفعلياً (بسبب تراجع قدرته على السيطرة والهيمنة)، شرعية التمثيل الأحادي للدولة السورية. وهذا يعني، بالمعنى التاريخي، أنّ ذلك النظام، بسيئاته وحسناته، أصبح من الماضي، وتالياً أصبحت المعارضة من الماضي أيضاً. اليوم، نحن في سورية، أمام استحقاق وطني يتمثل في تجديد الحركة الوطنية السورية الجامعة القادرة، وحدها، على القيام بمهمات متداخلة ومركّبة لا يمكن تأجيلها، وهي:

 هزيمة الغزاة وأدواتهم من الجماعات الأصولية المسلحة المحلية، والجماعات الإرهابية الوافدة،

 تأمين وحدة وسلامة الأراضي الوطنية وبسط سيادة الدولة على كل شبر فيها،

 المصالحة الوطنية الشعبية،

 وقف جميع أشكال العنف المسلح والقمعي في مواجهة المجتمع وقواه السياسية الوطنية، وإنهاء ظاهرة الاعتقال السياسي،

 إعادة المهجّرين إلى أحيائهم وبلداتهم وقراهم، وتقديم كل أشكال المساعدة للأسر لإعادة تأسيس حياتها الطبيعية،

 الشروع في إعادة البناء،

 تهيئة الظروف المناسبة لإجراء انتخابات حرة لجمعية تأسيسية، بإشراف مجموعة دول البريكس.

وقيام الحركة الوطنية السورية، عملية اجتماعية تاريخية موضوعية، تفرض وستفرض نفسها من خلال الفرز الحاصل والمتعاظم على أساس الموقف من الغزو الأجنبي للبلاد، ومن المصالحة الوطنية. فلا انتصار على الغزاة من دون مصالحة وطنية، ولا مصالحة وطنية من دون التوافق على أولية صدّ الغزاة.

في رأيي إنّ انعقاد مؤتَمرَي دمشق المعارضين الوطنيين، على رغم الخلافات والتباينات، يشكّل خطوة تأسيسية في طريق تكوّن الحركة الوطنية السورية الجديدة التي حالما تتبلور فكرياً وسياسياً وتنظيمياً، فإنّها ستضع النظام أمام خيار تاريخي لا مناص منه، سوف يعمل، أيضاً، على الفرز داخله.

هل يمكننا تكوين مبادرة يسارية  قومية من بلدان الهلال الخصيب، للسير في هذا السيناريو إلى مؤتمر عام للحركة الوطنية السورية، يتحدد المشاركون فيه وفق معايير موضوعية تتصل بالحركة وروحها ومهماتها، وتنبذ كل التحيّزات الفائتة والنزعات الإقصائية، وتنتهي بإعلان حكومة ائتلافية تمثّل كل أطراف الحركة الوطنية، وتتمتع بالصلاحيات اللازمة لتنفيذ المهمات المعرّفة أعلاه؟

في رأيي إنّنا في لحظة متحركة بالفعل، بحيث يمكن أن يكون هناك وزن جدي لمبادرة تقترحها قوى يسارية وقومية بشأن سورية. لقد آن الأوان لتلك القوى أن تخرج من دائرة الرأي إلى دائرة الفعل السياسي. وسورية، اليوم، هي قلب السياسة العربية، وسيتوقف على مآل الصراع فيها مصير المشرق كله، فإذا مضت التطورات باتجاه هزيمة الغزاة وانتصار الحل الوطني الاجتماعي الديموقراطي في هذا البلد، فإن الفرصة ستكون مهيأة لولادة المرحلة الثانية من حركة التحرر الوطني العربية. وبالمقابل، فإنّ انتصار الغزاة أو حتى الوقوع في براثن (الستاتيكو) التدميري الحاصل، سيقود إلى دمار المشرق كله.

 

عن (الأخبار) اللبنانية

العدد 1102 - 03/4/2024