حلب.. يوم كرّمتني ويوم أبكتني!

 خرجت من دمشق صباحاً..

لم أكن أتوقع أنني سأجد ترحيباً من هذا النوع يجعلني استثنائياً في لحظة واحدة، فوجهتي هي حلب، وأنا كاتب قصة بين عشرات الكتاب المغمورين، فكيف سأواجه جمهور حلب في لحظة كهذه؟!

وعندما تذهب إلى حلب، وأنت تعرفها تعتقد أنك ستضيع، فكيف إذا كنت لم تزرها إلا مرة واحدة وأنت طفل.. نعم، ففي حلب تكبر المدينة، فتتحول إلى عالم تتعرف في كل اتجاه فيه على الجديد،  ويصغر الزائر فيتحول إلى نورس ضاع عن سربه، بل يتحول الزائر في حلب إلى حكاية سريعة أمام زخم حكايات في التاريخ والحضارة..

في حلب، وصلت ظهراً، وقد مر الوقت سريعاً، فعند المساء ألقيت ما في جعبتي من قصص أمام نجو مئة حلبي. شعرت أنهم كانوا معي في  كل حرف من قصصي، فأنصتوا إلي، وقدموا ملاحظاتهم وصافحني كثيرون منهم  في بهو الجمعية، وكأنني تشيخوف أو غي موباسان، لكن صديقاً لي قال لي: أهل حلب يحترمون الضيف، فلا تتوهم أنك خرجت من معطف تشيخوف، فالذين صافحوك مثقفون قبل أن تولد!

وضحكنا..

جمعية العاديات هي التي وجهت الدعوة لي، وكان ذلك قبل نحو خمسة عشر عاماً من الزمن. وهناك كرمتني جمعية العاديات بدعوة على العشاء، وشعرت وأنا أجتمع مع قامات كبيرة من حلب أنني أصغر من هذا التكريم، نعم، فهم من كبار مثقفي حلب وكتابها، وكانت إقامتي ليومين، فإذاً أنا عاشق حلب وأهلها!

زرت حلب بعد ذلك كثيراً، ذهبت إلى بيت المتنبي، وفي بيته الحجري الصغير الذي أثيرت ضجة كبيرة عالمية حوله، تصورت نفسي أصافحه وأتعرف إليه، وذهبت إلى قنسرين الخالدة، وشعرت أنني سائح ضاع في الزمن، فإذا به في العصر الأيوبي يقرأ على الجدران مراسيم السلطان صلاح الدين الأيوبي..

عند الباب الأحمر القريب من باب القلعة، وقفت.. كتبت على ورقة موجودة معي عدة عبارات ربما أذكر واحدة منها الآن، وتقول: يارب لماذا أقفلت الزمن فلا نستطيع الذهاب فيه إلى الماضي والمستقبل؟!

أما قلعة حلب، فهي ملكة الأناقة في التاريخ تتربع في قلب المدينة على تلة مرتفعة، وكأنها تتحدى الحصار من أي جهة أتى!

منذ أكثر من خمس سنوات حين شُنّت الحرب على السوريين كتبت الكثير عن كل شيء من حولي، كتبت حتى عن (الستاتي) الشامية التي تتدحرج بين عجلات سيارتي وأنا أسير دون أن تخاف.. إنها مطمئنة في بلاد تطمئن فعلاً..

لكني عندما زرت حلب قبل نحو ثلاثة أشهر، وقفت في الطابق السادس عشر من فندق الشهباء أنظر إلى حلب وأبكي، فأنا لم أشعر بالاطمئنان..

كانت الساعة تقارب الرابعة فجراً، وكانت حلب معتمة.. معتمة تماماً إلا من بناء بعيد أشعل فيه سكانه مصباحاً واحداً..

أجهشت في بكاء مرير.. فلماذا يحرقون بلادنا؟!

لم يستقبلني أحد في حلب كما حصل معي قبل تلك السنين التي مرت.. شعرت أن الحرب غيرت العالم.. غيرت كل شيء، لكني وأنا أغادر حلب بعد أيام، كان في قلبي رغبة في أن أصلي لكي تنجو حلب.. لكي تنجو حلب.. وعندما تنجو حلب تنجو تخوم الشمال!

العدد 1104 - 24/4/2024