نضوب الماء العذب أخطر تهديد للبشرية

ما هو الشيء الأكثر ضرراً الذي يمكن أن يواجهه العالم خلال الفترة ما بين الآن وبين 2050؟ هل هو تبادل الهجوم النووي بين إسرائيل وإيران؟ لا, ليس هذا,  فمثل هذا الأمر, إن حدث, كما يمكن أن يتوقع أي إنسان واقعي, سيكون مجرد نزاع إقليمي ليس له أهمية تذكر لمعظم الدول الواقعة بين جنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية. . إذن، هل هو الصراع بين الولايات المتحدة والصين من أجل السيادة على منطقة المحيط الهادي الغربي؟ إنه قطعاً احتمال رهيب وقاتم, إلا أنه غير متوقع إلى حد بعيد. فكل طرف يخشى أن يخوض حرباً نووية، تفقده بوارجه الحربية, (أو بعضاً منها).

إن اندلعت مثل هذه الحرب, فإن الولايات المتحدة ستتمكن على الأرجح من تقويض الطموحات البحرية الصينية، ولكن الجوهر الأساسي للصين سيظل سليماً, فلماذا نتكبد كل هذه الخسارة, مادامت لن تحدث تغيراً مؤثراً؟

إن خسارة الماء العذب المضمون المصدر يمثل حتى هذه اللحظة أخطر تحدٍّ لأمن الجنس البشري على المدى الطويل؟ وحين يعي العالم ذلك, سيفهم أن التهديدات السياسية التي تواجهه تبدو ضئيلة المستوى مقارنةً بهذا الخطر. الماء متوافر بغزارة هائلة على سطح كوكب الأرض، لكن المشكلة أن الكميات الأضخم منه ليست عذبة صالحة للشرب أو لري النباتات والمحاصيل الزراعية. تشير الإحصائيات أن نسبة الماء الصالح للاستخدام البشري وللزراعة لا يتجاوز 2.5 بالمئة من كمية المياه الإجمالية الموجودة على سطح الأرض. ومما يفاقم مشكلة الحصول على ذلك الماء أن الجزء الأكبر منه موجود في ينابيع ضخمة تحت الأرض، أو محبوساً في طيات الغطاء الثلجي القطبي الهائل. أما كميات المياه الموجودة في الأنهار والبحيرات وفي متناول البشر فلا تزيد نسبتها عن 0.01 بالمئة من إجمالي مخزون المياه العذبة العالمي.

نضوب الماء أو تراجع كمياته أمر لا يحب أحد أن يفكر فيه أو يتخيله، فكيف ستبدو دولة مثل مصر مثلاً من دون نهر النيل؟ وكيف ستبدو لندن من دون نهر التايمز؟ أليست أعظم الحضارات التي أسستها البشرية على الإطلاق هي حضارات (نهرية) في الأصل؟ ما دام الأمر على هذا النحو, فهل يستطيع أحد أن يقول لي عدد الحكومات التي تخصص للتفكير في منظومتها النهرية الاهتمام نفسه والوقت نفسه الذي تصرفه في الاهتمام بموضوعات الإنفاق الدفاعي؟ والسؤال الهام هو: ما هي أخطر التهديدات التي تواجهها نعمة المياه التي وفرها لنا الخالق؟ من حيث العدد, هي ثلاثة تهديدات, مرتبطة ومتداخلة فيما بينها, ولكن, رغم ذلك, يمكن النظر إليها على نحو منفصل:

التهديد الأول؛ هو السياسات الدولية بمعنى النزاعات التي تنشأ بين الدول والشعوب على السيطرة على تدفق المياه من المنبع إلى المصب، حيث تقوم دول المنبع عادة بالتوسع في مشاريعها الزراعية لاستخدام أكبر كمية من المياه التي تتساقط عليها عن طريق الأمطار واحتجازها خلف سدود ضخمة تقيمها؛ مثلاً  كما فعلت تركيا حين بنت سد أتاتورك ما أدى إلى تقليص كميات المياه المتدفقة إلى سورية والعراق. ثمة أمثلة أخرى عديدة على ذلك التهديد في مناطق مختلفة أخرى من العالم.

التهديد الثاني؛ مختلف اختلافاً واضحاً عن التهديد السابق، ويتعلق بالزيادة الهائلة في الطلب على المياه العذبة في العالم نتيجةً للزيادة المستمرة في عدد سكان المعمورة، ما يشكل ضغطاً كبيراً ومستمراً على المصادر المائية.

وهو ما يوصلنا إلى التهديد الثالث أو الأخطر، وهو نضوب المصادر المائية ذاتها ممثلةً في المياه الجوفية ومياه الأنهار والبحيرات العذبة والمياه المحبوسة في طبقات الغطاء الثلجي، ما يعني أن البشرية لن تضمن بعد ذلك تدفقاً مأموناً ويمكن توقعه للمياه، ما يؤثر عليها لا اجتماعياً ولا ثقافياً وإنما بدنياً وصحياً في الدرجة الأولى.

إن الصراعات والقضايا التي تشغل أذهان المفكرين الاستراتيجيين الجالسين على مقاعدهم والخبراء القابعين في مكاتبهم، مثل الأزمة السورية، والنزاعات على الجزر بين الصين واليابان، والتوتر بين إيران وإسرائيل، هي مواضيع على الرغم من أهميتها البالغة بالنسبة لمن يشغلون أنفسهم بالتفكير فيها تتضاءل بالمقارنة مع أزمة المياه العالمية. إن تدفق المياه من نهر (كولورادو) إلى نهر (براهمابوترا) يتقلص تدريجياً. فقولوا لي هل هناك شيء أكثر أهمية من ذلك؟

بول كينيدي

أستاذ التاريخ, ومدير مركز الدراسات الأمنية الدولية التابع لجامعة يل الأمريكية, ومؤلف 19 كتاباً, آخرها (صعود القوى العظمى وسقوطها).

* المصدر: (Herald Tribune)

العدد 1104 - 24/4/2024