الحياة من جديد للأقدام المبتورة.. منظمة BMVSS قريباً في سورية

من الزوايا المنعزلة المنسية يأتون بلا حيلة وبلا حَوْل، بظلام كرسي العجلات الأربع.. أو بيأس العكازتين الرمادي.. بعيون بائسة وقلوب مرتجفة.

تحت الثياب يخفون عجزاً، وفي القلوب أملاً مفقوداً.. يسير بهم حلمهم نحو شمال الهند.. حيث مدينة جيبور الهادئة، التي تحضن في ثناياها أكبر منظمة في العالم لصناعة الأطراف الصناعية. هناك يجلسون متحاشين النظرات الفضولية إليهم، ويرقبون بصمت ودهشة الخارجين من غرف المعالجة.. منتظرين دورهم في العودة بخطوات جديدة تسير بهم نحو الحياة.

دخلنا القاعة الكبيرة، وكان في استقبالنا قدسية اللوحات الدينية المذهلة.. كل الرموز الدينية معلقة على الجدران وفي القلوب.. لا فرق هنا بين دين ودين، ولا بين طائفة وغيرها.. لا فرق في الجنس أو في اللغة.. الأوّلية للحالة الأصعب.. والفقير أولاً.. كانت الابتسامة مرافقة لمدير المنظمة وللعاملين.. الجميع متعاون.. تسكنه رؤية واحدة تتجسد في المساعدة الجسدية والاجتماعية والمعنوية لاولئك المعوقين.. بفكرة وحيدة تحملها العقول.. وهي إعادة الحياة الكريمة الطبيعية لاشخاص مبعدين.. وإعادة دورهم من جديد إلى حضن المجتمع.

كان المعوقون يتدرجون ويختلفون في إصاباتهم، منهم فاقد رجلاً كاملة أو الرجلين معاً، ومنهم من فقد رجلاً واحدة أو جزءاً منها، وبأعمار متعددة، ومن الجنسين.. وتنوعت أسباب الفقد ما بين المرض، أو نتيجة حادث ما، أو بسبب الحرب.. ومعظم القادمين من الطبقة الفقيرة.

كان يحاور بعض المنتظرين لما قابلناه، لم تفارق البسمة وجهه وهو يحدثنا عن ذاك الرجل الذي تعرض لحادث أليم كاد يفقد فيه رجله إلى الأبد.. وأبقاه طريح الفراش يفكر بالنجاة من عجز محتم.. ويطلق التساؤلات تحت سقف غرفته المظلم.. لا بد من حل لهذه الأرجل المبتورة.. لابد من تحدي الإعاقة ورسم درب جديد لتلك الأطراف.. ومن هنا نشأت الفكرة لديه.. وهكذا كان الدكتور مهتا من أنشأ المنظمة في عام 1975 ولا يزال يترأسها حتى الآن. وبالتعاون مع عدد من الأطباء الذين أشاروا إلى ضرورة مساعدة الفقراء لاستعادة حياتهم الطبيعية بالمشي والعمل وخدمة المجتمع.. فولدت فكرة المساعدة المجانية. وكانت البداية بتركيب 59 طرفاً اصطناعياً، واستمرت أفكار وأدوات المساعدة الإنسانية في المنظمة بالتطور يوماً بعد يوم.

أشار الدكتور مهتا أن مهمة المنظمة تتجلى لا في تركيب الأطراف الصناعية، والتدريب على التحرك بها فحسب، وإنما يهتم برنامج المنظمة بتقديم مساعدات مادية واجتماعية لمن ضاقت بهم سبل العيش.. ولديها أيضاً خطط توظيفية. وتسعى المنظمة إلى تطوير الأبحاث والوسائل والتقنيات المستخدمة في صناعة الأطراف وتقديم الجودة الأعلى وتخفيف نفقات الأجهزة.

للمنظمة فلسفة إنسانية رائعة، تتجلى في تقديم المساعدة مجاناً، سواء بتركيب الأطراف الاصطناعية أم بتوفير الكراسي المتحركة والعكازات.

و لفت الدكتور مهتا إلى أن الكثيرين استفادوا من هذه المساعدات المتنوعة لما يتجاوز المليون وثلاثمئة ألف معوق حتى الآن، ويستفيد سنوياً أكثر من 600 ألف معوق من المساعدات المقدمة بكل أنواعها وحسب الحاجة.

المنظمة تقدم خدماتها لكل المناطق في الهند بجميع مجتمعاتها، ولها 22 فرعاً تتوزع في مدينة جيبور، وفي دلهي، ومومباي، وراجستان، وشيناي، وحيدراباد،، وبانغالورو، وسريناغار، وأمبالا.

وللمنظمة نشاطٌ عالمي يتجلى بإقامة مخيمات علاجية في أنحاء الهند لمساعدة العاجزين عن السفر إلى المراكز البعيدة عنهم وتقديم المعالجة والخدمات اللازمة. كما أنها تقيم مخيمات في البلدان المتضررة من الحروب، وتساعد المعوقين هناك. ولها 21151 مخيماً حول العالم. وبإحصاء عدد المساعدات المتنوعة المقدمة للمعوقين فقد بلغ 121,282,1 مساعدة منذ تأسست المنظمة حتى عام 2012.

تتلقى المنظمة الدعم المادي من المنح المقدمة من الحكومة الهندية، ومن الهيئات الإنسانية، ومن المواطنين المقتدرين.علماً أن تكلفة صناعة الطرف الاصطناعي في المنظمة هو 54 دولاراً بالمقارنة مع تكلفة الطرف في الولايات المتحدة الأمريكية التي تصل إلى 12 ألف دولار أمريكي.

لدى سؤال الدكتور مهتا عن زيارته لسورية، أجاب أنه سيكون من ضمن خطة المنظمة إقامة مخيمات لتركيب الأطراف الصناعية في الفترة المقبلة مجاناً، مع جميع التدريبات الفيزيائية اللازمة لاستخدام الطرف الجديد.

أخبرنا أحد المعوقين، وكان فاقداً كلتا الرجلين، يقود دراجته خارج المركز، أن المنظمة أعادت له الحياة من جديد، فلم يعد عبئاً على أحد، وهو يذهب وحيداً إلى جامعته، ويتحرك بحرية، حتى إنه من الصعب التعرف على إعاقته، (أعادوا لي الأمل).

أما الطفل دينش فقد كان يركض بخجل منا، لما عرفنا أنه فقد إحدى رجليه بمرض طفولي، وهو الآن بعد المساعدة يعيش طفولته فرحاً كبقية الأطفال.

والسيدة الحامل بينام حكت لنا قصة معاناتها مع مرض اضطر الأطباء لبتر إحدى قدميها، وكيف أن الرِّجْل الاصطناعية تحل الآن محل رجلها الطبيعية وتساند جسدها وتساعده في حمل الجنين القادم.

هي الإنسانية تلك التي تلون جدران هذه المنشأة وتطلق النور في أرجائها، تلك الإنسانية التي منحت الفرصة من جديد لأولئك الذين لم يحالفهم الحظ أن يكونوا كبقية أبناء المجتمع جسدياً.. فأصبحوا الآن أصحاب وظائف، أو يدرسون أو يعملون.. أو على الأقل يعيشون حياة طبيعية بعيداً عن الحاجة للآخرين.

 

BMVSS (*) هي منظمة عالمية لتركيب الأطراف الصناعية مجاناً، تعمل في شمال الهند، ولها فروع في أنحاء العالم. وقد أعلن رئيس المنظمة عن استعداده للقدوم إلى سورية إن دعته الحكومة السورية.

العدد 1104 - 24/4/2024