نساء في معتقل الفراغ العاطفي

قرأت يوماً بحثاً نفسياً يقول: إن وقوعنا في الحب أحياناً لا علاقة له بمن نحب، وإنما لتصادف مرور هذا الشخص في حياتنا بفترة نكون فيها دون مناعة عاطفية، لأننا خارجون تواً من وعكة عشقية (فنلتقط حباً) كما نلتقط (رشحاً) بين فصلين، وهذا ليس حباً، إنه مجرد عارض صحي. الحب رائع وجميل بأفراحه ومغامراته وحتى بخساراته وأخطاره، لكن الأخطر من الحب هو وهم الحب، فمن الجميل أن نعشق شخصاً أحببنا فيه كل ما فيه، لكن ما أتعسنا عندما نعشق شخصاً لأننا فقط بحاجة إلى الحب، فنقنع أنفسنا بأنه الشخص الأجمل والأنقى والأكثر جنوناً، لنكتشف في النهاية أنه شخص عادي جداً يشبه بقية المارين في حياتنا، ونحن من أشعلنا نار الحب فيه، لأننا بحاجة إليه، رغم أنه قد يكون أكثر تجمداً من جليد القارات الباردة.

أسئلة كثيرة تجيب عليها تجارب نساء وقعن في معتقل الفراغ العاطفي.

 

عاشرت أنصاف الرجال بسبب الفراغ العاطفي!

لا تعرف قيمة الشيء أو الشخص إلا بعد فقدانك إياه، وما بين فقدان وآخر تسقط في المستنقع ألف مرة ومرة، وتهوي إلى منزلقات لم تكن تتوقع يوماً أن تكون أنت بكل كبريائك وعنفوانك مرمياً فيها كجرذ بائس يقتات على بقايا ما يأكله الآخرون! هذا ملخص ما عانته روان التي عاشت أرق وأصدق قصة حب في حياتها (على حسب قولها)، وقد تكللت بالزواج (السري) بطلب منها، رغم إصرار حبيبها على الزواج العلني، والسبب هو اختلاف الأديان وعدم قدرة روان على مواجهة أهلها. هذا الزواج استمر ثلاث سنوات، ولكن كما يقولون (ومن الحب ما قتل)، فزوج روان كان متيماً بها إلى حد الجنون، لكنه أيضاً كان يحلم باليوم الذي سيصبح فيه أباً، وعندما علم أن روان حامل وتريد التخلص من الجنين خوفاً من افتضاح أمرها أمام أهلها، جن جنونه وخيّرها بين أن تترك منزل أهلها وتتزوجه، وبين أن يقطع علاقته بها فوراً! اعتقدت روان أن حبيبها يتكلم بهذه الطريقة لأنه غاضب فقط، فهي تعرف كم يحبها، وبأنه لا يستطيع الحياة دونها، ولم يخطر في بالها أن يكون جاداً بما قاله، فقامت بالتخلص من الجنين دون علمه، ومنذ تلك اللحظة وهي تبحث عنه لكن دون جدوى.

تقول: (هذه أقوى صدمة في حياتي وصفعة لن أنساها حتى أموت، لم أتوقع أن يتخلى عني بهذه البساطة! أدركتُ متأخرة أني جرحته جرحاً كبيراً وخطئي لا يغتفر، لكني كنت خائفة من أهلي، وخوفي منهم للأسف كان أكبر من حبي له. لقد دفعت ثمن هذا الخوف عندما تحولت هكذا فجأة من زوجة مدللة وسعيدة، إلى إنسانة مطلقة وحيدة مهمشة تنتظر المجهول.. قررت فجأة أن أتخلص من هذا الموت البطيء، وعملت بالنصيحة التي تقول: (تعلّمْ كيف تُشفى من الأشياء التي تحبها بأكلها حتى التقيؤ)، ولكي أنساه أقمت علاقات عاطفية عديدة ومع أكثر من رجل في وقت واحد، دون أي إحساس بالذنب.. لا أعرف هل كنت أعاقب نفسي أم أعاقب زوجي الذي رحل عني واختفى. الفراغ العاطفي كان قاتلاً ومخيفاً، لكن المستنقع الذي رميت نفسي فيه كان أكثر إيلاماً من وحدتي وفراغي الروحي، لأن أنصاف الرجال الذين عاشرتهم كانوا كلهم في النهاية ينتمون إلى السلالة الأسوأ من الرجال، تلك التي تخفي وراء رصانتها ووقارها كل عقد العالم وقذاراته. أغلب الرجال الذين التقيت بهم كانوا من أصحاب المناصب والمراكز والجاذبية الذين تتمنى أي فتاة الارتباط بهم، ولكن الحكمة التي توصلت إليها تقول: (إن الرجال الذين خلقوا لكرسي، لم يخلقوا بالضرورة لسرير، والذين يبهروننا بثيابهم، ليسوا الذين يبهروننا دونها، والمشكلة أننا نكتشف هذا فيما بعد! أدركت الآن بعد كل الحرائق والجرائم التي ارتكبتها بحق روحي وجسدي لكي أنساه، ولم أنسَه، أن الحرية هي ألا تنتظر شيئاً، وألا تكون عبداً لقَبلة أو رائحة جسد).

دونك.. أنا.. وحيدة..  هذا الصباح!

على عكس الناس، كنت أريد أن أجرّب متعة الإخلاص والوفاء عن جوع، وقررت أن أبقى وحيدة بعد أن افترقنا، تقول سهاد وتضيف: (عاش حبه في قلبي وسط حقول الألغام، فكل العيون ترقبني وما أجملها من عيون، لكني لست بقادرة على فك الحصار عن قلبي، لقد قيدني بقهر وظلم وذل وأنا معه، وأَسَرَني أكثر فأكثر بعد أن رحل عني. ما أشدّ كان يلزمني من الإيمان كي أقاوم كل تلك النظرات التي تغويني يوماً بعد يوم من أشخاص غرباء وأنا جسد بلا روح. نعم هو فقط الشخص القريب، كلهم غرباء؟ كيف لي أن أنسى ما حدث بيني وبينه وأبدأ من جديد؟ إنه العشق الذي يقتل ويدمر.. ماذا أفعل أنا بكل تلك الصباحات دونه؟ الفراغ العاطفي الذي كان يقتلني لم يملأه رجل آخر، رغم حماقاتي ومغامراتي، أنا أنتظر معجزة حتى أخرج مما أنا فيه، لست أشك في أن هذا العالم بأسره ليس سوى عش للدبابير، وأنا متأكدة أنه اليقين الوحيد في حياتي مهما حلّق الرجال من حولي، سأكتفي بأن يكون في ذاكرتي، ويجب أن تتوقف هذه اللعبة القذرة التي أزج بروحي فيها، لعبة الكذب على الآخرين من الرجال والتلاعب بمشاعرهم، وأنا التي أدمنت صوته ورائحته.. كم أنا سعيدة لأنه جعلني أعشق بهذا الجنون، وكم أنا تعيسة لأنني سأقضي بقية عمري دون رجل، وفي داخلي ينابيع الحب تتفجر.. من يطفئ النيران)؟

من السهل أن نعرف كيف نتحرر لكن يصعب أن نكون أحراراً!

مع الخيول الوحشية الأصعب دائماً هو لحظة الاقتراب منها، أما ترويضها بعد ذلك فهو قضية وقت، وهذا ما حدث معي، التقينا مصادفة وأحبني بشدة، لكني كنت دائماً أتهرّب منه، لأنني فقدت ثقتي بالرجال منذ زمن طويل، وأجهدت نفسي بألا أتعود عليه، وأن أكتفي بأن أكون سعيدة عندما يأتي، وأن أنسى أنه مرّ من هنا عندما يرحل، لكنه كان يباغتني دوماً ويقتحم حياتي رغماً عني، كان مصراً على كسب الرهان بأني سأحبه يوماً، وكنت مصرّة على أن يكون مجرد عابر سرير في حياتي. كم كنت مغيبة عن الواقع عندما توقعت للحظة واحدة أنني سأنتصر، لم أكن أعلم أن القدر قد تواطأ معه ضدي، وعلمت أني عاشقة ذلك الشخص بجنون عندما بدأت أتصرف معه ضد مصلحتي الشخصية، عشت ذلك الحب بشراسة الفقدان، وصرت أعيش خوف اللحظة الهاربة. أحببته في كل لحظة وكأنني سأفقده في أي لحظة، انتظرته كل يوم دون أن أصدق أنه لن يأتي، وكم حلمت بعودته دون أن يرحل عني مرة أخرى، لكنه ذهب في ذلك اليوم ولم يعد، أخذه الموت باكراً قبل زواجنا بأسبوع واحد.

من السهل أن نعرف كيف نتحرر، لكن يصعب علينا أن نكون أحراراً! أربع سنوات مضت وأنا غير قادرة أن أعشق رجلاً غيره، الفراغ العاطفي سهم قاتل يفتك بالروح قبل الجسد، وإحساسي بأني أنثى يلح علي أن أدخل تجربة عاطفية جديدة، حتى لو كانت مجرد علاقة، كم كان بيني وبين المتعة مفتاح، ولكني رفضت مراراً أن أكون مضغة تافهة في جوف حوت. كلما التقيت بشاب لوح لي بمفتاح بيته منذ أول لقاء، وكم كنت أنظر بازدراء إلى هؤلاء الرجال التافهين الفارغين الذين لا يصلح لهم اسم إلا أن نقول لهم أنتم لاشيء سوى أنكم تصيدون بالماء العكر، ما أروع ذلك الرجل الذي جعل مني امرأة مخلصة لدرجة القرف، دون أن يطلب مني الإخلاص يوماً! في طلب الإخلاص استجداء ومهانة للحب، فإن لم يكن حالة عفوية فهو ليس أكثر من تحايل دائم على شهوة الخيانة. أنا الآن سيدة متزوجة، لسبب واحد فقط حتى لا أقع في مطب الفراغ العاطفي وأنجرف في أماكن ضيقة لا أعرف الخروج منها.

كيف؟ ولماذا؟

المرشدة النفسية هدى أبو الحسن تقول حول هذا الموضوع: (الفراغ العاطفي هو من أصعب الحالات النفسية التي تعيشها المرأة، وأقول المرأة لأن هذه المشكلة تكون أكثر وجعاً في حياة الأنثى من الرجل لأسباب كثيرة، تتلخص بطبيعة البنية الجسدية والفكرية والنفسية عند الرجل. ولهذا نجد المرأة تعاني أكثر، وللأسف لا أعتقد أن النصائح والكلام في هذا الموضوع تجدي نفعاً، فهي مشكلة حساسة للغاية، يساهم في تفاقمها عوامل كثيرة منها ما هو متعلق بطبيعة المرأة الحساسة والعاطفية وقدرتها على تجاوز الأزمات النفسية، ومنها ما يرتبط بالمجتمع الذي يحاصر تحركات المرأة ويقيدها بقوانين اللازم والممنوع، تحت عنوان عريض اسمه العادات والتقاليد. وبالمقابل فإن المجتمع المنفتح يسهل على المرأة تجاوز عقبات الضغط النفسي، ومنها الفراغ العاطفي. وهذا أيضاً يساهم في تحقيق التوازن الداخلي عند المرأة، والتوازن الاجتماعي في المجتمع. ومن ناحية أخرى فإن تجاوز هذه المشكلة يرتبط ارتباطاً شديداً بثقافة المرأة ودرجة نضجها ووعيها. المسألة الهامة والحساسة جداً في هذا الموضوع ألا تنجرف المرأة وراء مسميات وعلاقات كثيرة، بذريعة أنها تعاني الفراغ العاطفي.. ولتتذكر دائماً أن جسدها ليس حقل تجارب، وأن روحها زجاج شفاف من الصعب أن يلتئم بعد كسره.

العدد 1102 - 03/4/2024