في الحراك الصوفي

تراكمت الخلافات عند الصوفية سواء فيما بينهم أو مع علماء الفقه والشريعة والكلام، تحت بند العقل والمنطق والقانون والحرية والاستنباط والاستنتاج والتحليل..إلخ من مفاهيم ومصطلحات هي حكماً خارج قاموس المتصوفة.. لا بل على العكس تم بناء التجربة عند الصوفية وتركيزها وتكثيفها على مفاهيم خاصة – مغايرة تماماً لمفاهيم فقهاء الكلام ومصطلحاتهم – مثل الإلهام، القلب،الانجذاب، الاستغراق، السكر، الشطح، العرفان اللدني، الذوبان، الفناء، الخطف..إلخ. وما خلافاتهم الواضحة والبينة مع بعض فقهاء الشريعة والفرق الكلامية حول علومهم إلا نتيجة إيغالهم نحو الداخل، نحو الجوانيات، لدرجة تسمية علمهم بعلم الباطن.. هذا العلم يتبدّى لنا سلساً ورقيقاً في ظاهره إلا أنه يفور بالغموض والدلالات، العلم المنفتح على كل الأديان والمذاهب، والمتجه نحو الكونية ككل، بفكره المنفتح وارتفاعاته المتنامية عن القشور والشكلانيات، وتركيزه على ذات الإنسان وصهرها بعد تطهيرها من الأدران والعلل لتُسكب في بوتقة الخلود، فمن الطبيعي جداً ألاّ يتوافق التصوف مع علم الكلام أو الفلسفة أو علم الأصول، لسبب بسيط أنه علم جوانيّ، كما بيّنا سابقاً، أساسه القلب فلا يعترف بالعقل، أو إن اعترف فلمستوى معين وليس لجميع المستويات وأعمقها (إن التضاد في العالم الإسلامي بين منهجين: العقل والقلب، النظر والذوق، بذلك انكشف بعد الوجدان أو الشعور لأول مرة بوضوح في تراثنا القديم). ويرى د. حسن حنفي: أن التصوف والأصول فكر منهجي لا فكر نظري، كما هو الحال في الكلام والفلسفة، ولكنه يرى تضاداً أيضاً بين الأصول والتصوف، فيقول: فمع أن كليهما منهج إلا أن التصوف يدّعي أنّه منهج التأويل، أي الرجوع بالنص إلى مصدره الأول وهو مصدر الوحي، في حين أن الأصول منهج التنزيل، يريد إرسال النص إلى غايته وهو الواقع أو السلوك البشري. ومن ثم كان النهج الصوفي صاعداً من العالم إلى الله، في حين كان المنهج الأصولي نازلاً من الله إلى العالم)(1).

أما الدكتور نصر حامد أبو زيد في كتابه (مفهوم النص) فيضيف إلى تلك التناقضات المتكاثرة والمتنوعة تناقضاً آخر، ألا وهو التناقض مع الوحي وظيفة ورسالة واتجاهاً، فالوحي من الأعلى..من الله إلى الإنسان، للكشف والإفصاح عن ماهية رسالة ما.. بينما تيار التصوف ينطلق من مفهوم مؤداه من الأدنى إلى الأعلى.. من الإنسان إلى الله، سعياً لذاته النورانية. والوحي بوصفه رسالة ومعنى ودلالة لتخليص الإنسان من انتكاساته الزمكانية النفسية والاجتماعية والمادية، من خلال النهوض الجمعي ببناء واقع مبني على العدل والسلام والفضيلة.. بينما التصوف يسعى بنظرياته إلى الخلاص الفردي و…الخ فيقول: إن حركة الوحي النازلة من الله إلى الإنسان والتي تعني الكشف والإفصاح والبيان، قد تحولت في الفكر الديني المتأخر إلى حركة صعود من جانب الإنسان سعياً إلى الله ذاته.وعلى حين كانت حركة الوحي في بدايتها تستهدف الإنسان بما هو عضو في جماعة، ومن ثم تستهدف إعادة بناء الواقع لتحقيق مصلحة الإنسان، ولإشباع حاجاته المادية والروحية، فقد كانت الحركة الإنسانية في التصورات الصوفية حركة للخلاص الذاتي الفردي بمعانقة المطلق والفناء فيه (2).

والمتصوفة درجات ومراتب كما قلنا آنفاً، فقد اتسمت حياتهم بعضهم مع بعض بالخلافات والشقاقات وتباين الرؤى، كخلاف الحلاج مع شيخه عمرو بن عثمان المكي، ثم مع الجنيد وصديقه الشبلي، عندما صاح الحلاج صيحته المشهودة:

(أنا الحق)! فرد عليه الشبلي: (أنت بالحق)، أو قال: (أنا الله) فرد عليه: (أنت بالله)!

وأيضاً اختلف البعض فيما بينهم حول الكتابة والتأليف، فمنهم من انتقد ابن الفارض وابن عربي والسهر وردي وغيرهم من الذين سجّلوا ووثقوا وألّفوا، لزعمهم أن الصوفية (علم الخرق لا علم الورق).

تتعدد آفاق المتصوفة ومستوياتهم ودرجاتهم، بتعدد تجاربهم واستهلاكهم واستلابهم بواحدية المشهود ونورانية المعبود، وما ترتب على هذه المشاهدة من أفعال وردات أفعال من شطح وشطح الشطح وغيرها…والبعض اكتفى بالتلميح، كضرب الحكم والأمثال بالاعتماد على النص – بالأمثال أنطقُ، فأعلن ما كان خفيّاً منذ إنشاء العالم. (3)

وبالاعتماد على النقل تارة وعلى العقل تارة أخرى غير متجاوزين ما يكابده القلب لتقريب الناس نحو طريق الله طريق الحق.

إذاً نعود لنسأل: هل الصوفية كذلك!؟

وهل هي فعل أم ردة فعل على حراك سياسي اجتماعي ما؟! وإلى أي العهود يعود تشكّل اللبنة الأس للتصوف الإسلامي؟! هل إلى عهد النبي مثلاً؟ أم عهد الخلفاء الراشدين؟ أم عهد الصحابة؟

لقد تحدثنا آنفاً عن ورود كلمة صوفي في تراثنا القديم، وقلنا بحسب المصادر إنها من عصور ما قبل إسلامية (جاهلية) وهي ليست بالقريبة من عهد الإسلام، وبيّنا ما تستند إليه هذه الكلمة في معانيها ودلالاتها.. وقلنا إن التصوف من حيث هو حركة أو اتجاه فكري لم ولن تختص به أمة أو دين أو عرق أو..أو.. عن سواه، ولا ملامح واسمة له تختص بها بقعة جغرافية عن سواها..

تخبرنا كتب التاريخ والتراث بأن لا تصوف إسلامياً خاصاً في إسلاميته، ولكنه يستقي تربته الخصبة من ينابيع شتى، وتهبّ على شرفاته رياح ونسائم من حضارات عدّة، إلاّ أن ما يمكن قوله في هذا الحيّز إن التصوف الإسلامي ساهم في بلورة هذا التيار الفكري العريق تاريخياً وحضارياً وإغنائه ومدّه بقامات عظام تضاهي أساطين التصوف العالمي.

وبغض النظر عن أول استخدام لكلمة صوفي في التراث..وبغض النظر أيضاً عن مرجعية الفكر الصوفي ونقاط ارتكازه الفكرية.. نقول، كما أخبرتنا كتب ومراجع التاريخ، إنه في القرن الثاني للهجرة بدأت إرهاصات تشكل هذا التيار الهام والإشكالي جداً، فالدكتور حسن حنفي في كتابه (التراث والتجديد) يؤكد أن لا صوفية ولا تصوف في زمن الرسول ولا حتى في زمن الخلفاء، بل يرى إرهاصات تشكّلها جاءت في العهد الأموي (كانت تشكّلت هذه الجماعات الانعزالية بسلوكها الفاضل وحياتها الروحية الصافية وتكاثرت كمظهر من مظاهر العجز عن مقاومة نظم الحكم القائمة على الاغتصاب والبطش مثل الحكم الأموي، فظهر التصوف كظاهرة انعزالية في نشأته وتطور كردة فعل على تكالب الناس على الحياة، وبعد اشتداد وطأة المعارك الحزبية والتناطح بين الفرق، وبعد فشل كل محاولات تغيير الأمر الواقع بالقوة واستشهاد الأئمة من آل البيت. ولا يقال إن نشأته ترجع إلى حياة الرسول، فقد كانت حياته حياة الإنسان الكامل كما كانت حياة الجيل الأول حياة الجماعة الكاملة)(4)

هل الصوفية فعل..أم ردات فعل..؟!

أم هي حراك فكري.. فلسفي.. إبداعي.. ديني..طرح ويطرح نظريات وتعاليم خاصة..مثالية..تصورية للعالم..وعن العالم؟!

 

الهوامش

1 – د حسن حنفي – التراث والتجديد – دار التنوير للطباعة والنشر – بيروت – الطبعة الأولى -1981 – ص137.

2 – علي حرب – النص والحقيقة – نقد النص – الصادر عن المركز الثقافي العربي ببيروت – ،1993 ص245.

3- العهد الجديد – إنجيل متى، الإصحاح 13.

4 – د حسن حنفي – التراث والتجديد – دار التنوير للطباعة والنشر – بيروت – الطبعة الأولى -،1981 ص 136.

العدد 1102 - 03/4/2024