«الفوضى الخلاقة»

هذا التعبير هو الذي أطلقته كونداليزا رايس، مستشارة وكالة الأمن القومي الأمريكي، ووزيرة الخارجية في عهد بوش الابن، لتوصيف الوضع في الشرق الأوسط إثر الاحتلال الأمريكي للعراق عام .2003. وكان هذا يعني عملياً تفجير تناقضات المنطقة، بهدف خلق واقع جديد يناسب المصالح الأمريكية ومصالح الشركات العالمية المتعددة الجنسيات، وتسهيل تنفيذ ما سمي آنذاك مشروع الشرق الأوسط الكبير.

هذا التكتيك لم يكن جديداً على السياسة الأمريكية في المنطقة، فقد استخدمته في لبنان عام 1976 عندما أشعلت  بالتعاون مع إسرائيل طبعاً الحرب الأهلية اللبنانية، لخلق واقع جديد يناسب المصالح الأمريكية الإسرائيلية، إثر تعاظم الوجود الفلسطيني في لبنان وتهديده للتوازن الديموغرافي السياسي الهش في المجتمع اللبناني، وما يعنيه هذا الوجود من تهديد متوقع للشمال الإسرائيلي. لقد سمحت هذه الحرب بالتدخل العسكري الإسرائيلي المباشر في لبنان، وفرضت بدباباتها رئيس جمهورية حليفاً لها، كما أخرجت الفلسطينيين من لبنان عام ،82 وظنت أنها بذلك خلقت واقعاً أكثر أمناً وأكثر مناسبةً لمصالحها وللمصالح الأمريكية. لكن إذا دققنا في بعض نتائج تلك الحرب في المدى الأبعد، لوجدنا أنها فعلاً خلقت واقعاً جديداً، لكنه أشد خطراً على أمن إسرائيل وعلى المصالح الأمريكية:

1 صحيح خرج الفلسطينيون من لبنان، لكن ذلك مهّد لاتفاقية أوسلو التي سمحت للقيادات الفلسطينية بالعودة إلى الداخل الفلسطيني، وبدأت مرحلة جديدة من نضال الشعب الفلسطيني داخل أرضه، مما أدى إلى الانتفاضة الأولى، ثم الثانية، ثم إلى التهديد الصاروخي (رغم بساطته) الذي حارت إسرائيل كيف تنهيه رغم عدوانها المتكرر على غزة.

2 تعاظم العمل المسلح ضد الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب اللبناني، مما أدى إلى انسحابه منه مرغماً عام 2000.

3 تزايد التهديد للشمال الإسرائيلي مع صعود حزب الله، والذي حاولت إسرائيل توجيه ضربة قاصمة له عام ،2006 فمُنيت بفشل ذريع أدى إلى زيادة قوة حزب الله بدل إنهائه.

4 فقدت قسماً من حلفائها في لبنان، فانقلبوا عليها.

أعود إلى احتلال العراق الذي فكك الدولة العراقية، وأنهى وجود الجيش العراقي عملياً، والنتيجة كانت:

1 تعاظم النفوذ الإيراني في العراق التي أصبحت امتداداً لإيران في مواجهتها مع الولايات المتحدة وإسرائيل والدول العربية التي تسير في فلكهما.

2 الإخلال بإحدى ثوابت السياسة الاستعمارية في المنطقة، وهو الحفاظ على التناقض بين النظم التي تقوم في سورية وفي العراق، مما سمح للتحالف الإيراني السوري بامتداد جغرافي أرضي جوي.

3 تشكل كيان كردي في الشمال العراقي أخذ يشكل تهديداً لتركيا (العضو في الناتو)، وأعطى ورقة للنظام السوري (من خلال أكراد سورية) يضغط بها على تركيا (حزب العدالة) رأس الحربة في المخطط الأمريكي.

لن أستفيض في النتائج أكثر، فما ذكر منها يبين بوضوح أنها لم تكن لصالح الولايات المتحدة وإسرائيل.. ونستطيع أن نستنتج بالقياس إلى التجربة اللبنانية والعراقية أن سياسة (الفوضى الخلاقة) الأمريكية لن تخلق واقعاً جديداً أفضل لها في سورية! وأن الواقع الجديد الذي يتشكل الآن لن يكون في مصلحة أمريكا وإسرائيل، رغم أن ذلك كان على حساب دماء الشعب اللبناني ثم العراقي والآن السوري، إلا أن ذلك لن يكون دون جدوى! ولنلاحظ ما يحدث:

1 تشكل تحالف دولي واسع واضح ضد السياسة الأمريكية في المنطقة، من روسيا والصين وإيران ودول (البريكس).

2 التطور النوعي في الجيش العربي السوري من ناحية الخبرة العسكرية، نتيجة خوض المعارك وحرب الشوارع الطاحنة التي خاضها، ومن ناحية الأسلحة المتطورة التي تلقاها من حلفائه.

3 كشف قسم كبير من العملاء الداخليين والخارجيين من الذين كانوا يختبئون في مؤسسات الدولة والأمن والجيش.

4 حرق ورقة الإسلام السياسي في يد الأمريكي والإسرائيلي، نتيجة صمود الدولة السورية، مما ساعد على سقوط (مرسي) في مصر، وأزمة سياسية حقيقية ل(أردوغان) في تركيا.

ورغم أن المحاولات الأمريكية الحثيثة عبر عملائها المكشوفين والمستترين (المتغلغلين في كل الأطراف) لتوجيه الأزمة السورية باتجاه تدمير الدولة السورية وتمزيقها وتحويلها إلى كانتونات طائفية، إلا أن هذا لم يحدث، بل سيكون الحكم القادم مهما كان شكله أشد عداءً للولايات المتحدة وإسرائيل وأشد خطراً على مصالحهما من السابق. هنيئاً للولايات المتحدة وإسرائيل وعملائهما على مستقبلهم الواعد في بلادنا!

العدد 1102 - 03/4/2024