حرب الغاز بين الشرق والغرب (1من2)

بدأت القصة عام 1992 عندما أُقرّت اتفاقية (كيوتو Q2) للحد من انبعاث الغازات في الجو ومنع تفاقم الاحتباس الحراري، وفي عام 1994 ألزم الإتحاد الأوربي نفسه بهذه الاتفاقية (الولايات المتحدة رفضت الالتزام) وأصبح الغاز أهم من النفط، والغاز موجود في إيران وروسيا وقطر.

 وبدئ باستخراجه لتلبية الطلب الأوربي، كما بدئ بتسييل الغاز القطري، لأنه لا يمكن مد أنابيب من قطر إلى أوربا. وخصص الغاز القطري للسوق الأوربية لمنافسة الغاز الروسي، وجاء هذا بعد أن قامت واشنطن بإشعال الشيشان ويوغسلافيا بوساطة الأفغان العرب.

روسيا أول دولة لإنتاج الغاز في العالم، وتملك ثاني احتياطي عالمي له بعد إيران، وبنظرة سريعة إلى الميزانية الروسية نلاحظ أن مبيعات الغاز تشكل نسبة هامة من الواردات الروسية، سوقها الرئيسي هو أوربا، تؤمن لها ربع احتياجاتها منه على الأقل والنسبة في تصاعد مستمر.

كان الغاز الروسي يمر إلى أوربا عبر أوكرانيا، وعندما انهار الاتحاد السوفييتي، دعمت أمريكا الحركات الانفصالية في جمهورياته السابقة خاصةً أوكرانيا للتضييق على الغاز الروسي المار عبرها إلى أوربا.

فالصراع بين روسيا والولايات المتحدة على أوكرانيا لم يكن فقط لوجود أسطول البحر الأسود السوفييتي على سواحلها، أو لوجود قسم هام من السلاح النووي السوفييتي على أراضيها (نحو2000رأس نووي)، بل يعود إلى أن عقدة توزيع الغاز الروسي الرئيسية وكل صادرات روسيا إلى أوربا من الغاز تمر عبرها، وتريد الولايات المتحدة وقف الغاز الروسي وتحريك غاز آسيا الوسطى، لقطع أية علاقة بين أوربا وموسكو قد تتحول في المستقبل إلى تحالف! وهي بهذا الهدف سعت لبناء خط غاز يبدأ من تركمانستان مروراً بتركيا إلى وسط أوربا متجنباً المرور بروسيا واليونان، وسمي هذا المشروع بخط غاز (نابوكو). الشكل (1)

وحتى نفهم البعد الجيوسياسي الأنجلوساكسون، وبالتحديد (الديني)، لهذا المشروع علينا فهم الرمزية في تسميته!

ف (نابوكو) اسم أوبرا للملحن الإيطالي الشهير (فيردي) حول التحرر من العبودية، تستند إلى قصة وردت في التوراة تحدّثت عن آلام اليهود أثناء السبي البابلي على يد الملك نبوخذ نصر، وهكذا نفهم البعد الصهيوني في المشروع، وقد أعلن عنه مع صعود عبد الله غُل للسلطة في تركيا، وبعد الإعلان عنه بأقل من عام تمّ احتلال العراق! ونلاحظ أن قسم الخط الموجود في آسيا خارج الأراضي التركية غير موجود في الخريطة، وذلك نتيجة ارتباطه بمشروع الشرق الأوسط الكبير الأمريكي الشهير والذي لا تريد الإدارة الأمريكية الإعلان عن تفصيلاته السرية.

 كان من المفترض أن يبدأ في عام 2009 ثم تمّ تأجيله إلى العام 2012 ثم إلى عام 2014 لتعثر تأمين مصادر غاز كافية له كما سنرى، ونتيجة فشل إسرائيل في محاولة احتلال جنوب لبنان عام 2006 في حرب تموز، ثم تمّ تأجيله إلى عام 2017 بعدما تم التأكد من فشل محاولة تقسيم سورية.

خط غاز (نابوكو)

تعد القارة الأوربية أكبر مستهلك للغاز الطبيعي في العالم، ويرجح أن تظل على هذه الحال لسنين عديدة. وحالياً تحصل أوربا على نسبة تصل إلى 50% من حاجتها للغاز الطبيعي من الحقول الأوربية، أما ما تبقى فتستورده من روسيا بصفة خاصة، إلى جانب كميات قليلة أخرى تستوردها من شمال أفريقيا، وفيما لو تواصل ارتفاع الطلب الأوربي على الغاز الطبيعي، فإنه سيتعين عليها رفع وارداتها منه إلى الضعف على أقل تقدير بحلول عام ،2020 وسترتفع حصة الغاز الطبيعي كمصدر للطاقة الأولية في أوربا، من23% حالياً إلى 34% مستقبلاً.

في منتصف الشهر السابع من عام 2009 أبرمت في العاصمة التركية أنقرة اتفاقية تمهد الطريق أمام إقامة مشروع خط أنابيب ضخم لنقل الغاز من وسط آسيا عبر الأراضي التركية في اتجاه دول الاتحاد الأوربي، ويصب في مستودعات كبيرة للتخزين تقع في بلدة حدودية في النمسا، وشارك في التوقيع على هذه الاتفاقية إضافة إلى تركيا وأذربيجان، أربع دول أعضاء في الاتحاد الأوربي: (بلغاريا  رومانيا  المجر  النمسا) التي من المنتظر أن يمر بها الأنبوب، وبحضور ألمانيا التي تشارك في تنفيذ المشروع! وبحضور رئيس المفوضية الأوربية (جوزي مانويل باروسو) وكذلك المبعوث الخاص من قبل رئيس الولايات المتحدة (باراك أوباما) لشؤون الطاقة في أوراسيا (ريتشارد مورنينجستار).

وأكد المشاركون بعبارات لا تقبل الشك تبني حلف الأطلسي ودعمه السياسي والاستراتيجي لمشروع (نابوكو)، ولقد جسد هذا المشروع منذ بدء التفكير فيه صراعاً حاداً بين نوعين متضادين من الاستراتيجيات الجيوسياسية الكبرى حول طاقة القوقاز ووسط آسيا، تمخضت في نهاية المطاف عن التوقيع على أغرب اتفاقية دولية وقعت خلال العقد الأول من القرن ال 21 واتخذت أول خطوة عملية في بداية عام 2002 عندما وُقع بروتوكول مشاركة في المشروع بين شركات غاز: نمساوية  تركية  رومانية  بلغارية

الهدف المعلن لخط غاز (نابوكو) هو تغذية أوربا بالغاز مباشرة من وسط آسيا إلى وسط أوربا دون أن يعبر روسيا، وتحديداً من تركمانستان (التي تملك رابع أكبر احتياطي غاز في العالم) عبر بحر قزوين إلى أذربيجان ثم شمال العراق، ثم يمر ثلثاه عبر الأراضي التركية ومن ثم يعبر بلغاريا ورومانيا والمجر ليصب في محطة تجميع ضخمة في النمسا، بطول يصل إلى 3300 كيلو متر.

ولم توضح بعد الصورة القانونية الخاصة ببناء الخط، وبدت أنها ستستكمل في وقت لاحق باتفاقات منفصلة بين الدول المانحة للغاز مع الدول الخمس المعنية بالمشروع.

بدأت فكرة المشروع مع بداية هذا القرن، بناءً على استراتيجية حلف الناتو في تحرير جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابقة من الهيمنة الروسية، وبالخصوص موارد تلك الجمهوريات، وبكسر احتكار روسيا، مما سيقلص اعتماد الاتحاد الأوربي على إمدادات الغاز الروسية.

إن غموض مصادر الغاز هو ما يميز مشروع خط أنابيب نابوكو، وهو ما حدا بنا إلى وصفه بأغرب اتفاقية دولية وقعت خلال العقد الأول من هذا القرن، وجه الغرابة في هذا المشروع هو قلبه للموازين والقواعد الاقتصادية الكلية، ذلك أنه من المفترض أن تجد المادة المراد نقلها أولاً، ثم تبدأ في إنشاء الوسيلة لنقلها، أي أنه يجب أن تجد الغاز المراد نقله أولاً، ثم تنشئ خط أنابيب غاز؛ ولكن على الرغم من هذه البديهة تم التوقيع على اتفاقية مشروع نابوكو عام 2009م الذي يقضي ببناء خط الأنابيب أولاً، ثم البحث عن الغاز لاحقاً.

طبعاً أثار هذا حفيظة الدب الروسي الذي يتربع على أكبر احتياطي للغاز في العالم، ويسيطر على جميع خطوط الأنابيب العاملة التي تنقل الغاز الطبيعي إلى أوربا، وأظهرت روسيا ممانعتها قولاً وفعلاً لذلك المشروع الذي اعتبرته معادياً لها ويستهدف كيانها الإقليمي، وتبنت خطة استراتيجية دفاعية بثلاثة محاور لمجابهة مشروع نابوكو وتفريغه من جدواه من النواحي القانونية والاقتصادية والسياسية، على النحو التالي:

1 إثارة نزاع حول الملكية القانونية لثروات بحر قزوين:

ذلك أن أكبر حقول الغاز التركمانستاني تقع في بحر قزوين بالقرب ساحلها، وعلى الرغم من سيطرة روسيا العسكرية على البحر بأكمله! إلا أنها تعي تماماً خطورة التهديد العسكري الذي ربما يأتي بردود فعل سلبية عليها إقليمياً ودولياً، وفضلت بخطوة ذكية إثارة خلاف قانوني بين الدول المطلة على بحر قزوين جوهره تحديد ماهية الصفة القانونية للمسطح المائي لبحر قزوين في ظل القانون الدولي لكسب الوقت.

فالقانون الدولي يفرق بين الصفة القانونية للمسطح المائي فيما إذ كان بحراً (مفتوحاً) أو مسطحاً مائياً مغلقا (بحيرة)، فالبحر يتم تقاسم مياهه وثرواته حسب طول شواطئ الدول المحيطة به، بينما المسطح المائي المغلق تُتقاسم ثرواته بالتساوي بين الدول المحيطة به، وتأسيساً على هذا المبدأ، تبنت روسيا تعريف حوض قزوين على أنه بحيرة، وبناء على ذلك فالقانون الدولي يعطيها الحق بتقاسم ثرواته بالتساوي مع الدول المحيطة به، وبذلك أصبح من المستحيل ليس فقط إنشاء خط أنابيب غاز عبر حوض قزوين، بل أيضاً التوقف عن تطوير أية حقول غاز على سواحل حوض قزوين في تركمانستان أو أذربيجان، إلى أن يتم الاعتراف به كبحر، وبذلك كسبت روسيا الوقت للتحضير للخطوة التالية.

العدد 1102 - 03/4/2024