اقتصاد اليوم التالي!..
لعبت العوامل الاقتصادية دوراً بارزاً في حركات الاحتجاج (1) التي اجتاحت المنطقة العربية منذ بداية عام ،2011 ورغم اختلاف مسار هذه الحركات من بلد إلى آخر، ورغم تفاوت الأساليب والنتائج التي نجمت عنها، فإن مما لا شك فيه، أن هناك نقاط التقاء تجمع بين ما جرى ويجري على الساحة العربية، وفي البلدان العربية التي قامت فيها حركات الاحتجاج، وما آلت إليه هذه الحركات، وتأتي العوامل الاقتصادية وتداعياتها الاجتماعية والسياسية في مقدمة تلك النقاط.
ولعل شعار (الخبز- الكرامة – العدالة الاجتماعية) الذي رفع مع بداية بروز حالة الغليان التي سادت شوارع وميادين أغلب البلدان العربية، خير دليل على عمق تأثير العوامل الاقتصادية، وعلى دور هذه العوامل التي أدت إلى حالة الإحباط واليأس نتيجة تردي الأوضاع الاقتصادية، وما قادت إليه السياسات الاقتصادية المتبعة من بطالة وفقر واتساع الفجوة في الدخول والثروة، إلى جانب العوامل السياسية والاجتماعية والثقافية الأخرى، إلى رفع شعار (إسقاط النظام). ومع تصاعد الأزمة وعدم التصدي لمعالجتها،سقطت أنظمة وبقيت أخرى تدافع عن بقائها، فكانت الفرصة مواتية لتدخلات خارجية أخذت الطابع التدخلي العسكري المباشر (كما في ليبيا)، أو التدخل المباشر وغير المباشر لإشعال نار حروب، استقدمت فيها الجماعات التكفيرية المتطرفة، لتثير أحطّ النوازع الطائفية والجهوية والعنصرية (كما في سورية).
وإذا كان التغيير السياسي الذي بدأ في مصر قد أوحى بإمكانية السير في عملية التغيير الديمقراطي بهدوء وسلاسة، فإن (صندوق الاقتراع) قد أفرز نتيجة لعوامل اجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية، صعود تيار الإسلام السياسي وما نجم عنه من أوضاع سياسية كان عنوانها الأساسي الإقصاء والاستفراد وإنكار الآخر، مما يعني أن الديمقراطية الحقة لا تختصر بصندوق الاقتراع، إنما هي نتيجة لثقافة متعددة الأبعاد، وممارسة لعمل سياسي لا يخضع لعوامل الجهل والتجهيل وإنكار الآخر والتكفير.
لكن يظل هناك ما يجمع بين جميع حركات الاحتجاجات وما آلت إليه في البلدان العربية، ولعل الأهم في ذلك هو غياب البرنامج الاقتصادي لما بعد الأزمة، وعدم وضوح الرؤية الاقتصادية والاجتماعية، فإذا كان للعوامل الاقتصادية دورها في بروز حركات الاحتجاجات (في مختلف صورها وأدواتها)، فإن مما لا شك فيه أنه سيكون لهذه العوامل دور أساسي في المرحلة التالية في سياق عملية التغيير السياسي، مما يستوجب النظر والبحث عن السياسات الاقتصادية والاجتماعية المطلوبة والمرغوبة لتلبية أغراض وأهداف مرحلة الانتقال والمرحلة التالية لها.
ولعل نقطة البدء في تلمّس هذه المسألة والاقتراب من وضع الأسس للسياسات الاقتصادية والاجتماعية للمرحلة الانتقالية وما يليها هي الوقوف على ماهية الإخفاق في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ذلك الإخفاق الذي نجم عن سياسات اقتصادية واجتماعية أدت إلى تحويل ثمار عملية التنمية لصالح القلة وحرمان الأكثرية منها، وما رافق ذلك من ممارسات أمنية وإقصائية، إلى جانب ما أفرزته المرحلة من فساد وتغليب الأعمال الهامشية وأعمال السمسرة والوساطة واحتقار للعمل المنتج، مع إعلاء شأن الثقافة الاستهلاكية، والتمادي في عملية الانفتاح الاقتصادي الذي قاد إلى سياسات اقتصادية وتجارية تُغلّب فيها مصالح الخارج على المصالح الاقتصادية الوطنية؛ إن التحليل العلمي الدقيق لتلك الحقبة يشكل ركيزة عملية لاستشراف العمل المنهجي العلمي الصحيح، ليس فقط من أجل استخلاص النتائج، وإنما أيضاً من أجل التوصل إلى الخيار الأفضل للخلفية النظرية المساعدة على رسم سياسات اقتصادية واجتماعية سليمة للمرحلة الانتقالية وما بعدها.
هذا مع ملاحظة التالي:
إن إخفاق المرحلة السابقة من النواحي الاقتصادية والاجتماعية وبالتالي إخفاق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، هذا الإخفاق شمل معظم الأنظمة الاقتصادية في البلدان العربية، سواء منها تلك الأنظمة التي اعتمدت التخطيط المركزي وسيطرة الدولة على الاقتصاد وعلى القرار الاقتصادي، أو تلك الأنظمة التي اعتمدت اقتصاد السوق الليبرالي.
في جميع الحالات، تلازم الإخفاق الاقتصادي مع الإخفاق السياسي المتمثل في الاستحواذ على السلطة وإقصاء الآخر، إلى جانب الممارسات الأمنية والارتباط بسياسات خارجية معينة.
في ضوء هاتين الملاحظتين، فإن السياسات الاقتصادية والاجتماعية المناسبة لمرحلة الانتقال وما يليها يجب أن تتزامن وتتوازى مع عملية التغيير السياسي، وأن يرتبط ذلك كله مع برنامج اقتصادي – اجتماعي – سياسي، من شأنه ليس فقط الخروج من حالة الإقصاء التي وصلت إليها البلدان العربية التي انبثقت فيها حركات الاحتجاج، وإنما أيضاً العمل على بناء المستقبل الزاهر للأجيال القادمة، وإيجاد الأسس السليمة لسياسات ما بعد المرحلة الانتقالية.
إن هذه العملية تحتاج، فيما تحتاج إليه، إلى موارد مالية ضخمة للمساعدة في إعادة دورة الإنتاج، ولتمويل عملية إعادة الإعمار في البلدان التي تم فيها تدمير أجزاء عديدة من البنى التحتية، وكذلك لتمويل عملية التنمية، وسوف يتصاعد دور الوسطاء والوكلاء وتجار الأزمات والمؤسسات المالية الدولية، بهدف جني الأرباح وتحويلها لصالح فئات جديدة أو قديمة لها ارتباطاتها مع الفئات التي أفرزتها الأزمة، كما أن للمؤسسات المالية الدولية ومن يسيطر على قراراتها، حساباتها وأهدافها، لهذا فالمطلوب الحذر الشديد من العروض ومن الحلول السهلة التي يمكن أن تعرض. وبالتأكيد فإن التركيز يجب أن ينصب في المرحلة الانتقالية على الاعتماد على الموارد الذاتية، وعلى استعادة الأموال المنهوبة، وعلى الحد من الفساد، وترشيد الإنفاق والقضاء على هدر الأموال العامة وسرقتها، تلك العناصر إلى جانب الاستعانة بما يمكن أن توفره الدول الصديقة من تسهيلات وقروض غير مشروطة يمكن أن تكون الأساس العملي لحل مشكلة التمويل، التي يعمل البعض على تضخيمها لتحقيق مصالح معينة، ولحرف السياسات الاقتصادية (والسياسية) عن مبتغاها.
وعلى ذلك، فإن النهج الاقتصادي لمرحلة الانتقال إلى السياسات الاقتصادية والاجتماعية المنبثقة عنه عليه أن يراعي مجموعة من الأهداف والسياسات، لعل أهمها ما يلي:
– مواجهة السلبيات التي تولدت عن السياسات الاقتصادية والممارسات البيروقراطية في ظل النظام السياسي والاقتصادي السابق، ونخص منها ما يتعلق بالبطالة وفجوة الدخول والثروات، وبالتالي ضمان وتوفير أسس العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص وما يترتب عليها من شروط اقتصادية واجتماعية تمنع الاستغلال وتحدّ من التعدّي على حقوق المواطنة وحقوق الإنسان عامة، وتؤمن للجميع المساواة أمام القانون وأمام مقتضيات الحد المقبول من الأوضاع المعيشية، وتحقق الكرامة والعيش المشترك للجميع.
– دعم الإنتاج والإنتاجية والقضاء على ثقافة الاستهلاك والحد من الاستغلال والمستغلين والبيروقراطية والبيروقراطيين، وإعلاء شأن العمل النزيه والمنتج، والعمل على تطوير الإنتاج الصناعي والزراعي (بشقيه النباتي والحيواني).
– توسع الدولة في الإنفاق الاستثماري والخدمي الشعبي وترشيد الإنفاق الإداري والجاري، مع إفساح المجال لعمل القطاع الخاص المنتج ضمن الخطة العامة للدولة، في محاولة لحشد جميع الموارد الوطنية المتاحة وتوجيهها نحو التنمية.
– إصلاح القطاع العام، بتحديث أنظمته وتعزيز قدراته الإنتاجية وتحديث وتجديد وسائل إنتاجه، والحد من الهدر والإسراف، ووضع الأسس السليمة لمكافحة الفساد والقضاء على المفسدين.
– تحقيق نوع من التوازن بين القطاعين العام والخاص وترشيد العلاقة فيما بينهما لضمان رفع كفاءة الاقتصاد الوطني، وتشجيع التعاون السكني والاستهلاكي والإنتاجي والحرفي.
– الاهتمام بالتعليم ودعم البحث العلمي بالإمكانات البشرية والمادية.
– العمل على استعادة الأموال المنهوبة من الدولة والقطاع العام.
– إقامة علاقة متوازنة ومسؤولة مع المؤسسات المالية الدولية، واستعمال حقنا في الحصول على الموارد المالية اللازمة دون شروط مجحفة بحقوقنا السيادية.
– ضبط العلاقات الاقتصادية والتجارية بالعالم الخارجي وتطويرها بما يخدم أهداف عملية التنمية ويعزز القرار الاقتصادي الوطني المستقل، ومن المهم التدرّج المحكوم بالانفتاح على العالم الخارجي وتمكين الاقتصاد كأولوية ضرورية.
– توجيه الجهود المالية والبشرية نحو إعادة إعمار ما خربته الأحداث الأخيرة، والعمل على بناء قاعدة قوية من البنى التحتية، وبضمن ذلك الاستثمار الاقتصادي للموارد الطبيعية المتاحة.
– حل المشكلات المتعلقة بالخدمات الاجتماعية، وخاصة في مجالات الصحة والتعليم والإسكان. هذه العناوين الرئيسية لسياسة اقتصادية للمرحلة الانتقالية، التي يمكن الانطلاق منها للمراحل التالية. ولاستكمال هذه المقترحات ينبغي السعي لوضع المناهج والخطط انطلاقاً من الدور القوي للدولة في مرحلة الانطلاق سعياً لتعزيز القدرة الاقتصادية الكلية للدولة بمشاركة جميع المواطنين والفعاليات الاقتصادية كافة، بما يضمن النهوض الاقتصادي وتأمين قيام مجتمع الكفاية والعدل، وإعلاء شأن العمل المنتج وتعميم ثقافة المواطنة والمشاركة والتصدي للتحديات الداخلية والخارجية، على أن يأتي ذلك ضمن برنامج التغيير الديمقراطي السياسي والاقتصادي المطلوب.
(*) الورقة الخلفية للندوة العلمية التي ستعقد على هامش أعمال الجمعية العمومية للجمعية العربية للبحوث الاقتصادية، في 28/12/2013.
1 – استخدمت تعبير (حركات الاحتجاج)، لأنه أقرب إلى الواقع، واستبعدت التعابير المستوردة مثل (الربيع العربي).