اليهودية والصهيونية والشركات المتعددة الجنسيات (1من3)

في اليهود رأيان متناقضان: هناك من يرى أنهم المسيطرون على العالم بقبضة خفيّة، يتحكّمون به وبمساره التاريخي بشكل تآمري! وهناك آخرون يرون أنهم أمةً بائسةً قضى قدرها أن تكون مضطهدةً مطاردةً من كل شعوب الأرض!

ونتيجة عزلة اليهود التاريخية، حيكت حولهم كثير من الأساطير ساهم اليهود ببعضها.

انتشر اليهود في كل دول العالم تقريباً، ولعبوا فيها دوراً متميزاً ومتشابهاً على اختلاف الديانات والنظم الاقتصادية الاجتماعية التي كانت سائدة في تلك الدول، وعملوا في الحرف الخدمية كالتجارة والصرافة والصياغة والطباعة، وعمل فقراؤهم بالحرف الفردية حذّاءين وخياطين وباعة متجولين، ولكنهم بشكل عام كانوا ميالين للعمل بالسمسرة والتجارة الوسيطة وأشكال الاستثمار الربوي، وتميزوا بهذا عبر التاريخ، وشخصية شايلوك في مسرحية شكسبير (تاجر البندقية) هي النموذج لليهودي في أذهان الناس في القرون الوسطى، إضافة إلى تصورات مبهمة عن مسؤولية جماعية لهم عن فاجعة صلب السيد المسيح عليه السلام.

وقد وظفت الصهيونية هذا التميز اليهودي عبر التاريخ لإذكاء الشعور القومي عند اليهود وإحلاله محل الرابطة الدينية، وغالت في ذلك إلى درجة العنصرية، وإذا أردنا أن نجد تفسيراً للتميّز اليهودي أكثر علمية من الادعاء الصهيوني، فعلينا أن نعود إلى الظروف الموضوعية التي كونت هذا التميز، هذه الظروف التي واجهوها بعد أن عبر بهم النبي موسى البحر من مصر إلى سيناء، كما ورد في العهد القديم والقرآن الكريم.

ويبدو أنهم عاشوا رعاة وتجاراً وسطاء بين مصر والشعوب الكنعانية في هذه المنطقة المميزة من الأرض التي تقع في قلب العالم وسط الحضارات القديمة:الفرعونية المصرية من جهة، وحضارات سورية وبلاد الرافدين من جهة ثانية، ثم روما واليمن في المدى الأبعد.

إن موقع سيناء فرض عليها أن تكون نقطة تماس وتبادل بين مختلف الحضارات الكبرى في العالم القديم، مما رسخ فيها أشكالاً للعلاقات الاقتصادية الاجتماعية تناسب موقعها كمنطقة تبادل، هذه الأشكال تطورت منذ القدم من أشكال التبادل العينية البدائية وصولاً إلى أشكال الوساطة التجارية الأحدث، ونلاحظ هنا أن القاسم المشترك لكل تلك الأشكال كان: تحقيق القيمة الزائدة دون المشاركة في عملية الإنتاج.

بدأ هؤلاء الرعاة بالاستقرار على تخوم الأراضي الكنعانية متخلّين عن حياة البدو الرحل والرعي تدريجياً محتفظين بدورهم وسيطاً تجارياً، ومن ناحيةٍ أخرى فإن فلسطين التي تقع على تخوم الإمبراطوريات القديمة الكبرى (مصر وبابل وروما)، جعل السيطرة عليها هدفاً استراتيجياً لهذه الإمبراطوريات، عدا أنها كانت نقطة التقاء الطرق التجارية الرئيسة في ذلك الوقت، فكان السبي البابلي والاجتياح الروماني، فضلاً عن الغزوات التي كان يقوم بها ملوك الفراعنة بين الحين والآخر، وقد فرض هذا الواقع على اليهود أن يعيشوا دون دولة خاصة بهم إلا فترات بسيطة جداً من تاريخهم.

خصوصية سيناء أتاحت لهم امتلاك ثروات كبيرة من التجارة الوسيطة دون أن يتوازى ذلك مع وجود دولة مستقلة تضم تلك القبائل وتحمي ثرواتها، ومن هنا نستطيع أن نفهم أهمية الدين اليهودي الذي أتى به النبي موسى، لقد كان في جوهره مشروعاً سياسياً لتوحيد قبائل بني إسرائيل في دولة، وتحويلهم إلى أمةٍ لها قوانينُها وشعائرها وشخصيتها الخاصة، فشعار التوحيد الذي رفعه كان يحمل مضموناً سياسياً إضافة إلى المعنى الديني، أي الإيمان بإلهٍ واحد، (وهذا مشابه لمشروع النبي محمد (ص) بعده بما يقارب ألفي عام)، لكن هذه القبائل الرعوية في ذلك الوقت لم تكن قد تطورت بشكل كاف يسمح لها بإنجاز ذلك المشروع، وهكذا تحول الشعور بالأمن الذي من المفترض أن يتمحور حول مفهوم الدولة! وتمحور حول مفهوم الثروة، وصادر الذهب مفهوم الوطن وحل محله، وأصبح وطن اليهودي في جيبه يحمله معه أينما ذهب، وهنا تكمن الإشكالية الأساس في تاريخهم! هذه الإشكالية هي التي ساهمت في تكوين الوجدان اليهودي والتي حملها اليهود معهم فيما بعد إلى كل مكان ذهبوا إليه، كما حملوا أشكال الاستثمار التجارية الوسيطة التي تطورت إلى أشكال استثمار ربوية، وهذه الإشكالية ذاتها هي التي ساهمت من جهة أخرى في احتفاظهم بتميزهم وعدم اندماجهم في العملية الإنتاجية في كل المجتمعات التي عاشوا فيها فيما بعد، طبعاً هناك من اندمج منهم وذاب في مجتمعه وتحول إلى المسيحية أو الإسلام، لكن بقيت منهم الجماعات الأكثر تعصباً التي سكنت الأحياء اليهودية في المدن التي حلوا بها والتي سميت (غيتو). يقول ماركس  اليهودي النسب  (ومن هنا تأتي الأهمية الخاصة لرأيه وليس فقط لأنه مفكر مبدع)، في كتابه (القضية اليهودية):

(إن اليهودية بقيت، لا رغم التاريخ، ولكن في التاريخ ومن خلاله، وإنها تدين ببقائها إلى الدور المتميز الذي لعبه اليهود كعملاء اقتصاد مالي في الأوساط التي كان يسودها اقتصاد طبيعي).

لقد لبى اليهود حاجة اقتصادية في مجتمعات زراعية كانت تفتقد إلى وجود سيولة نقدية ونظام تمويل، لذا فإن الأغنياء منهم كانوا أحد مصادر التمويل في الدول التي عاشوا فيها، حين كان الاقتصاد الزراعي هو السائد، أو كما عبر ماركس (الاقتصاد الطبيعي) والسيولة النقدية فيه نادرة خاصةً في غياب نظام مصرفي! فقاموا بدور المصارف في أوربا الإقطاعية وقبلها في العهود الرومانية بل وأحياناً في العهود الإسلامية (في الأندلس تحديداً)، ومن هنا سنحت لهم فرصة الاقتراب من السلطة دون أن يكونوا جزءاً منها، فقرّبهم بعض الحكام كمستشارين اقتصاديين.

إن إغلاق الدين اليهودي وحصره على اليهود في النسب، أو بمقتضى (الحلقة) أو (الخاتم) كما ورد في كتاب (الأصوليات المعاصرة/ روجيه غارودي) وهو معيار ديني مذهبي طائفي ضيق، ينبع من الميل إلى حصر الاستثمار التجاري الوسيطي فيما بينهم، وقد أشار (سبينوزا) ذلك المفكر اليهودي المميز المستقل، إلى التناقض الأكبر في اليهودية، عندما أشار إلى أنها تربط إلهاً كونياً واحداً بشعبٍ بعينه هو شعبه المختار، وقد دفع ثمن ذلك غالياً حين اضطر أن يكافح معظم حياته القصيرة ضد اضطهاد الكهنوت اليهودي من جهة، والكهنوت الكاثوليكي من جهة أخرى.

ولاشك أن الاضطهاد الذي واجهه اليهود عبر التاريخ، بغض النظر عن أسبابه، ساهم في تعميق عنصريتهم واستمرارها، وكرست هذه العنصرية عزلة اليهود واعتقلتهم داخلها، لكنها فرضت عليهم في الوقت نفسه أمرين: أولهما تنظيم مجتمعاتهم تنظيماً دقيقاً متماسكاً، وثانيهما إعداد أنفسهم إعداداً عالياً ليزيدوا فرص نجاحهم، من هنا جاء تعاونهم غير المحدود أولاً، والإتقان الذي عُرف عنهم ثانياً.

ومن جهةٍ أخرى كان عليهم أن يبنوا أقنية اتصال مع المجتمعات التي عاشوا فيها، مما دفعهم إلى تشكيل تنظيمات وجمعيات موازية لتنظيماتهم ضمت المتعاونين معهم في تلك المجتمعات من غير اليهود، وقد ترك اليهود بصمات تنظيماتهم وبعض اصطلاحاتها على تلك المنظمات، ومن أشهرها وأوسعها انتشاراً كانت الماسونية، كما أن هناك جماعات ذات مظهر مسيحي ك (شهود يهوا) وغيرها، وقد انتشرت هذه الجماعات في أمريكا خاصةً بين البروتستانت (والمجموعة التي قادت أمريكا أيام حرب العراق تنتمي إلى إحدى هذه الجماعات)، وكانت هذه التنظيمات تجمع الطامحين من النخب الاجتماعية إلى المال والسلطة من مختلف الاتجاهات السياسية، وتتيح لهم فرص الوصول والنجاح مقابل خدماتهم فيما بعد، فكانت هذه التنظيمات انتهازية تماماً في توجهاتها وسياساتها.

هكذا عاش اليهود عبر التاريخ على الحدود الفاصلة بين الحضارات والديانات والثقافات المختلفة، وحتى في المدن التي سكنوها عاشوا في أحياء منفصلة عرفت باسم (الغيتو)، عاشوا فيها ضمن انتماءين اثنين، أحدهما ثقافتهم اليهودية، والثاني ثقافة مجتمعهم الذي عاشوا فيه، كان أحدهم يعيش ضمن محيطه وخارجه، عضواً في مجتمعه وغريباً عنه، يقول موسى مندلسن، الفيلسوف اليهودي الإصلاحي الألماني معبراً عن هذا الازدواج بقوله: (كن يهودياً في بيتك، وإنساناً خارجه).

هذا الشكل من التكيف سمح لأعداد منهم في عصور الاضطهاد أن يحتفظوا بيهوديتهم سراً خلف قناعٍ من المسيحية سرعان ما خلعوه عندما زالت الظروف السياسية التي أجبرتهم على ذلك، كيهود إسبانيا الذين كانوا يعيشون بحرية في المجتمع الإسلامي، ثم عانوا كثيراً من محاكم التفتيش الشهيرة فيما بعد، لكنه من جهة أخرى سمح لبعض مثقفيهم التحرر من إسار الكهنوت اليهودي المتزمت، فمالوا إلى العلمانية وانطلقوا بالفكر الإنساني نحو آفاق واسعة، كسبينوزا وماركس وفرويد وأينشتاين.

العدد 1102 - 03/4/2024