اليهودية والصهيونية والشركات المتعددة الجنسيات (3من3)

هكذا ساهمت الصهيونية في إيقاف عملية اندماج اليهود في المجتمعات الإنسانية، بل إنها كرست إشكالية اغترابهم واستخدمتها لدفعهم إلى فلسطين وتوطينهم فيها، ومن الواضح أن الهدف الحقيقي لها ليس مصلحة اليهود! بل استخدام اليهود لتحقيق مصالحها ضمن مصالح البرجوازية الاستعمارية الغربية التي كان زعماء الصهيونية جزءاً منها، يقول هرتزل في كتابه (الدولة اليهودية):

(ستكون هذه الدولة حصناً متقدماً للحضارة الغربية في مواجهة البربرية الشرقية).

وعلى الرغم من الإدانة والمعارضة للصهيونية السياسية من قبل أكثر الحاخامات اليهود في ذلك الحين، الذين نددوا بهذا الإحلال لدولة إسرائيل محل إله إسرائيل. (الأصوليات المعاصرة /روجيه غارودي) قامت إسرائيل على أشد المبادئ عنصريةً ورجعية وهمجية.

حملت إسرائيل منذ لحظة إنشائها التناقض بين الهدف الحقيقي لإنشائها وبين الشعارات التي طرحتها الصهيونية لجذب جماهير اليهود، أي بين مصالح الدول الرأسمالية الاستعمارية التي سمحت ودعمت قيامها! وبين مصلحة إسرائيل ككيان سياسي مستقل، هذا التناقض لم يكن واضحاً تماماً عندما قامت إسرائيل، لكنه بدأ يتجلى عندما أصر بن غوريون على استقلال القرار السياسي لإسرائيل عن زعماء الصهيونية الذين اختاروا أن يبقوا في (الديسبورة) أي المنفى أو الشتات، رغم أن إسرائيل تدين بوجودها لدعمهم وتأثيرهم، وأصر بن غوريون على أن الهدف الوحيد للصهيونية يجب أن يكون مجسداً في الـ(عُلـّية) أي الصعود، ومعناها الاصطلاحي (الصعود إلى فلسطين)، وقد اعترض على هذا (ناحوم غولدمان) الذي كان رئيس المنظمة الصهيونية wzo  تلك الأيام من (1951-1968) ورأى أن الصهيونية يجب أن ترعى حياة اليهود في المنفى أيضاً، وكاد الخلاف أن يؤدي إلى انشقاق في الحركة الصهيونية بين يهود إسرائيل ويهود المنفى، وقد حذر من ذلك صهاينة أمريكيون مثل الحاخام (مورديكي كابلان) مؤسس حركة (ريكونستروكشينست)، لكن المؤتمر الصهيوني الذي قام في القدس عام 1968بعد انتصار إسرائيل في حرب حزيران عام 1967 أنهى الخلاف لمصلحة صهاينة إسرائيل المنتصرين، ولكن إلى حين.

حزب العمل كان له الثقل السياسي الأكبر في إسرائيل حتى مقتل رابين عام 1995 على أكتاف أعضائه قامت إسرائيل، وزعماؤه هم الذين كانوا وراء السعي الحثيث لاستقلال القرار السياسي لإسرائيل عن الصهيونية العالمية، بل كانوا يطمحون إلى جعلها جهازاً رسمياً في دولتهم، ففي تموز 1954 أضفى الكنيست الإسرائيلي الطابع الرسمي لهذا الطموح في قراره الذي نص على: (بالاتفاق مع المنظمة الصهيونية العالمية، وبالتفاهم بين الحكومة والجهاز التنفيذي الصهيوني، ستمنح الحكومة دعمها القانوني للحركة الصهيونية). لكن هؤلاء بالذات هم الذين أدركوا بعد الانتفاضة الفلسطينية الأولى أن مصلحة إسرائيل تكمن في السلام، وهكذا فإن إسحاق رابين بعد أن أصبح رئيس وزراء إسرائيل عام 1992 كرس جهوده منذ ذلك الوقت للتوصل إلى تسويةٍ سلميةٍ مع العرب والفلسطينيين، وأبرم منذ عام 93 اتفاقيات حكم ذاتي لإقامة دولة فلسطينيةً مستقلة تشمل الضفة والقطاع ما عدا القدس، كما أنجز عام 94 اتفاقية سلام مع الأردن وبدأ بمحادثات سلام مع سورية، لكن رابين اغتيل عام 95 وترافق ذلك مع صعود اليمين الإسرائيلي إلى السلطة في إسرائيل، وكان ذلك يعني عملياً تدمير عملية السلام، وبذلك انتهت الفرصة التي كانت متاحة أمام إسرائيل للاندماج في المنطقة، وعادت إسرائيل إلى مهمتها الأساسية التي قامت من أجلها، والتي ليست بالتأكيد حل القضية اليهودية كما كان يأمل صهاينة حزب العمل! بل تأمين مصالح العالم الغربي الرأسمالي ورعايتها في منطقتنا العربية، وانتهى بذلك حلم استقلال القرار السياسي الإسرائيلي، وعاد مرتبطاً بالقرار الصهيوني العالمي وتابعاً له، وهو الذي كان متمركزاً ذلك الحين في أمريكا.

في عالم الشركات! عالم المنافسة الشرسة والاقتتال الضاري على الخامات والأسواق! تقف الصهيونية بوصفها كمافيا عالمية، تمتد داخل الدول والحكومات والشركات عبر أتباعها وحلفائهم وأعضاء تنظيماتها الموازية المشار إليها سابقاً، تستمد قوتها من تنظيمها الدقيق وتماسك أعضائها وانضباطهم وتعاونهم، كإحدى الأدوات التنفيذية في يد قادة تلك الشركات من كبار المستثمرين ومالكي الأسهم ومنهم زعماء الصهيونية، تقوم بالدور الذي لعبه اليهود دائماً كوسطاء بين مختلف الأطراف، تلعب على التناقضات المختلفة لخدمة سادة العالم الجديد.

لكن الإشكالية اليهودية بقيت دون حل! حتى بعد أن حققت الصهيونية العالمية وعدها في تشكيل دولة تجمع اليهود، وكل ما فعلته أنها اقتلعت اليهود من المجتمعات التي كانوا يعيشون فيها وجمعتهم في إسرائيل ليدافعوا عن مصالح النخبة المسيطرة على الشركات في العالم.

 إن إدراك اليهود لمدى الاستغلال الذي قامت به الصهيونية تجاههم، هو الخطوة الأولى في طريق تحريرهم من سيطرتها، ومن ثم إعادة اندماجهم في المجتمعات التي يعيشون فيها، لا بوصفهم مستغلين ومحتلين! بل كمساهمين في عملية الإنتاجية الاجتماعية، ومواطنين عاديين لهم ما للآخرين وعليهم ما عليهم، وليس لهم حل آخر! إن العودة إلى تصور ماركس هو الحل الأكثر واقعيةً وسلامةً بالنسبة إليهم، لكن ذلك لا يمكن أن يتم إلا عبر تفكك النظام العالمي الرأسمالي الحالي! وظهور نظام عالمي جديد لا يقوم على استغلال دول الشمال لدول الجنوب.

هنا تتبدى إشكالية دولة إسرائيل الحالية! إن إسرائيل بوصفها دولة قومية عنصرية تكونت في الوقت الذي بدأ هذا الشكل للدولة بالتفكك والانحدار، وبدأت دول القوميات المختلفة تقيم الروابط الاقتصادية وتتجمع في كتل جديدة ستكون نواة لدول جديدة بمواصفات مختلفة، لقد وجدت الدولة القومية في ظل ألمانيا النازية أوج تطورها وبداية انحدارها في الوقت نفسه، فما هو مستقبل إسرائيل في جوار يزداد عداءً ورفضاً لها مع تزايد عدوانيتها وشراستها!؟

 من الواضح أن عنصرية إسرائيل لن تسمح لها بتقديم حلول مقبولة للفلسطينيين، وسيبقى التناقض الحاد بين إسرائيل وشعوب المنطقة قائماً حتى يجد حلاً ضمن السياق العام للتطور الموضوعي للعالم، ألا وهو تقويض الدول القومية والعنصرية وانحلالها وظهور دول جديدة ذات مواصفات مختلفة.

إن التآمري في التاريخ هو تلك الحماقات التي يرتكبها بعض من يظنون أنهم يستطيعون تغيير مسيرة التاريخ وكتابته على طريقتهم، إلا أنهم لا يدركون أنهم وبأيديهم يحثون الشروط الموضوعية التي ستنهي محاولاتهم ليصبحوا عبرةً للآخرين، وتبقى إرادة التاريخ أو إرادة الله! (سموها كما تشاؤون) هي التي تتم في النهاية، وهي التي تقود البشرية باتجاه الارتقاء والتقدم، لكن ذلك لا يتم من تلقاء نفسه، بل بأيدي أولئك الذين يختارون المواقف النبيلة المتطابقة مع الموضوع أو مع إرادة التاريخ، ويأخذون على ذلك مكافأتهم بأن يصبحوا بشراً صالحين، ويحصلون بذلك على شيئ من السعادة وتبرير أخلاقي للحياة.

العدد 1102 - 03/4/2024