أوربا بين أزمتها… وطموحها للهيمنة (2 من3)

تطور أزمة الديون

عندما تفجرت أزمة الديون الأوربية في اليونان عام (2009) كانت نتيجة تلاعب في الإحصاءات الرسمية لتسجيل إنجازات اقتصادية وسياسية وهمية. وهو ما تكشف مع فوز الحكومة الاشتراكية برئاسة (جورج باباندريو) في الانتخابات اليونانية، ثم سرعان ما سقطت هي الأخرى مع تفاقم الأزمة والغضب الشعبي، وقد ذهبت بعض الآراء إلى إلقاء اللوم على الأزمة المالية العالمية التي فجرها انهيار بنك (ليمان براذر) وتبعاته علي قطاع التمويل العقاري الأمريكي والعالمي.

لكن في كانون الاول 2011 تشابكت الإشكالات في (منطقة اليورو) وألقت بظلالها على أسواق المال والعملات والقطاع المصرفي، وتداخلت العديد من الأبعاد والتراكمات التي جعلت (نظرية الدومينو) تنطبق عليها بشقيها الاقتصادي والسياسي، فتوالى سقوط الحكومات! سواء بالاستقالة أو بالانتخابات نتيجة تعثر اقتصاداتها وتعاظم الحركات الشعبية الرافضة لأسلوب معالجة الأزمة، فالبرجوازية الأوربية تريد حل الأزمة على حساب الطبقات الأدنى، فوقعت الحكومات الجديدة بين (مطرقة) سياسات التقشف الاقتصادي وخطط العلاج الصادرة عن الاتحاد الأوربي والبنك المركزي الأوربي الموحد وصندوق النقد الدولي، و(سندان) الانكماش في معدلات النمو نتيجة هذه السياسات، مما أدى إلى الدخول في حلقة مفرغة من الإجراءات وردود الأفعال، وقد جرى تغيير الحكومة اليونانية ونظيرتها بالاستقالات، أما في إيرلندا والبرتغال وإسبانيا، فقد جرى التغيير بصناديق الاقتراع الانتخابية.

أما الحكومات التي لم تسقط، فلم تنجُ هي أيضاً من وطأة الأزمة، إذ عانت باريس وهناً اقتصادياً وسياسياً، وبلجيكا مأزقاً شديداً على الصعيد الاقتصادي، أما ألمانيا فدخلت دائرة مجابهة الأزمة نتيجة وصول نيرانها إليها، فتراجع إقبال المستثمرين على سنداتها، ولم يشتروا سوى40% من قيمة المطروح الذي بلغ 6 مليارات يورو عام 2011 مما أعطى دلالات على أن التخوف من عنصر المخاطرة في السندات الأوربية انتقل من الدول المتعثرة مالياً (سواء كانت دول الإطار الخارجي كاليونان، وأيرلندا، والبرتغال، وإسبانيا، أو دول المركز في الوحدة النقدية كإيطاليا)، ووصل إلى ألمانيا التي يفترض أنها (العمود الفقري) وطوق النجاة المالي لمنطقة اليورو والاتحاد الأوربي عامة، وفرض هذا الوضع مزيداً من الأعباء والضغوط السياسية والاقتصادية على برلين، فخاضت المستشارة ميركل معركة سياسية داخلية.

وعكست التحذيرات المتتالية الصادرة عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية وصندوق النقد والبنك الدوليين، تطوراً جديداً في أزمة الديون السيادية الأوربية، ولفتت إلى تداعياتها الدولية ابتداء من آسيا إلى أمريكا اللاتينية، وذلك في ظل عولمة القطاعات المصرفية وأسواق المال إضافة إلى التجارة العالمية، كما قوبلت تلك المخاوف بمواقف حذرة من جانب اليابان والصين ومجموعة الدول الصناعية الصاعدة التي تعرف باسم مجموعة (بريكس) (الصين، روسيا، الهند، البرازيل، جنوب إفريقيا) إذ أعلنت عن استعدادها للإسهام من خلال صندوق النقد الدولي، لا بصفة ثنائية متبادلة، وقد تأكد ذلك في قمة مجموعة العشرين في (كان) بفرنسا، مما عكس التغيرات في مراكز القوة الاقتصادية العالمية.

بالتوازي مع ذلك، استمر تخفيض التصنيفات الائتمانية من جانب مؤسسات ووكالات تقييم الجدارة الائتمانية، وانتقالها من الدول المتعثرة إلى أخرى أقوى وأكثر استقراراً وإلى العديد من البنوك الأوربية، مما يعيد إلى الأذهان الأزمة المالية التي تفجرت عام 2008 في أمريكا، ومن هنا بادر كل من المصرف المركزي الأوربي، وكذلك الفيدرالي الأمريكي، ونظراؤهما الياباني والبريطاني، والكندي والسويسري، إلى تخفيف أزمة نقص السيولة لدي البنوك الأوربية، بما يصل إلى 106 مليارات يورو! ولا يبدو حتى الآن أن هناك حلاً سحرياً للأزمة. وقد يبدو للوهلة الأولى أن أزمة الديون السيادية الأوربية منفصلة عن الأزمة المالية العالمية (2008)، إلا أن الدراسة الموضوعية لمسببات (الأزمة العالمية) تدل أن (الأوربية) امتداد لها، وإن كانت أكثر حدة، لدورانها حول عملة واحدة هي (اليورو) وعدم قدرة أية دولة على خفض قيمته لزيادة صادراتها، بينما كانت الأولى موزعة على العديد من العملات وبضمنها الدولار، إضافة إلى أن مأزق البنوك الأوربية انقسم في جزء منه، فخضع لأزمة (التمويل العقاري)، بينما ارتبط الجزء الآخر بالتوسع في الاستثمار وإقراض الحكومات الأوربية لتمويل عجز موازينها المالية (لأن نفقاتها أعلى من إيراداتها)، وكان للعملة الأوربية الموحدة وسهولة التعامل بها في الدول السبع عشرة الأعضاء في الوحدة النقدية أثره على التوسع في مجالي الإقراض والاقتراض بالنسبة للبنوك الأوربية، وامتد ذلك الانكشاف إلى دول شرق ووسط أوربا، وبالتالي أصبحت هذه البنوك في حاجة إلى دعم حكومي مكثف وليس العكس، وكان ذلك سبباً في أزمة كل من أيرلندا وإسبانيا.

لقراءة الجزء الأول: اضغط هنا

العدد 1104 - 24/4/2024