المؤازرة الروسية.. تداعياتها وآفاق المستقبل

بعد ما يقارب خمس سنوات على المأساة السورية، فشل فيها الغرب الإمبريالي وحلفاؤه وعملاؤه في كسر الدولة السورية، وبعد أكثر من عام على إعلان التحالف الدولي برئاسة الولايات المتحدة ما زعم أنه حرب على الإرهاب في سورية والعراق، لم يؤد من الناحية العملية إلا إلى انتشاره أكثر! بعد هذا كله تأتي المؤازرة الروسية للدولة والشعب السوري، بناءً على طلب الحكومة السورية، وبترحيب دولي علني وخفي، لتقلب الطاولة على المخطط الأمريكي في المنطقة.

لم يكن عند الولايات المتحدة مانع من أن تطول الحرب في سورية لسنوات طويلة، ونذكر تصريح أوباما منذ شهور أن (الأزمة السورية قد تستمر من 10 إلى 20 عاماً)! لقد بقيت الولايات المتحدة خلال السنوات الخمس الماضية تماطل، بل وتُفشل كل الجهود الدبلوماسية من مختلف الأطراف لتسوية سياسية للصراع الدامي في سورية، محاولة فرض شروطها بمرحلة انتقالية هدفها وضع أسس نظام طائفي مشابه للنظام الذي أنجزه بريمر بعد الاحتلال الأمريكي في العراق، وذلك لتفكيك الدولة السورية (كما حدث في العراق) وضرب تماسك الجيش السوري.

من المؤكد أن المؤازرة الروسية ليست مجانية، وأن وراءها مصالح هامة للدولة الروسية جعل تأييد الدوما والأحزاب الروسية المختلفة المشاركة فيه لها شبه كامل، وعكس التأييد الشعبي من قبل شعوب الاتحاد الروسي الذي يقابله ارتياح لها وترحيب من الشعب السوري كذلك، وقد عبر الرئيس بوتين عن هذه المصالح بمنتهى الوضوح: (الإرهاب يهدد الأمن القومي الروسي)، لكن المصالح الروسية ليست هنا فقط، إن لسورية منذ أيام القياصرة أهمية خاصة للروس، نظراً لموقعها على المتوسط المياه الدافئة بالنسبة للأسطول الروسي، كما أن لموقع سورية أهمية خاصة في معركة الهيمنة على سوق الغاز العالمي مع الشركات الأمريكية التي بدأت منذ بداية هذا القرن أي منذ عام 2000 عندما طرحت أمريكا مشروع خط نابوكو لنقل الغاز الآسيوي عبر تركيا إلى أوربا، والذي استطاعت حنكة السياسة الروسية إفشاله، ولسورية أهمية خاصة في هذا الصراع لأن المنتصر فيه سيتحكم بأسعار الغاز العالمي لعقود طويلة قادمة.

طبعاً روسيا اليوم ليست هي الاتحاد السوفييتي السابق، هي الآن دولة رأسمالية بكل المعايير، لكنها ليست دولة إمبريالية، وهذا هو الفرق الجوهري بينها وبين دول الغرب والولايات المتحدة خاصةً، إن التعامل بين سورية الدولة الصغيرة ذات الإمكانات المتواضعة مع العملاق الروسي مبني على المصالح المشتركة ذات المنفعة المتبادلة للشعبين الروسي والسوري، ولا تشبه بأي وجه العلاقة مع الاحتكارات الأمريكية الغربية التي تقوم على نهب ثروات الشعوب، فعندما أرادت الولايات المتحدة الهيمنة على سورية في معركتها من أجل الغاز شنت عليها حرباً دامية حشدت لها كل إرهابيي العالم، بينما روسيا آزرت سورية في حربها الدامية تلك ودعمتها كما كانت تدعمها دائماً في صراعها مع الغرب الإمبريالي، هذا الفرق الواضح لم ينشأ اليوم ! إنه فرق تاريخي طويل يلاحظ بوضوح لمن يستعرض تاريخ العلاقة بين سورية والولايات المتحدة والغرب عامة من جهة، وسورية وروسيا من جهة أخرى.

لقد أحرجت المؤازرة الروسية الغرب والمخطط الأمريكي وهرعوا بعد المماطلة إلى طاولة المفاوضات في فيينا (مرغمين) مقرّين بوحدة الدولة السورية أرضاً ومؤسسات، وهذا ما جاء في بيان فيينا حرفياً:

1ـ وحدة سورية واستقلالها وسيادة أراضيها وهويتها العلمانية.

2ـ أهمية الإبقاء والحفاظ على المؤسسات السورية. (بما فيها مؤسسة الجيش طبعاً).

ثم الفقرة السادسة:

6ـ موافقة جميع الدول المشاركة على ضرورة إلحاق الهزيمة بكل المجموعات الإرهابية المصنفة من قبل مجلس الأمن الدولي، متخلّين عن المرحلة الانتقالية التي وردت في جنيف (1)، معترفين بحق الشعب السوري في تقرير مصيره وتحديد قيادته، فقد جاء في الفقرة السابعة:

7ـ وفقاً لبيان جنيف عام2012 وقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2118 تدعو الدول المشاركة منظمة الأمم المتحدة إلى جمع ممثلي الحكومة السورية ومثلي المعارضة معاً لتدشين عملية سياسية تؤدي إلى تشكيل حكومة قادرة وفعالة وشاملة وغير طائفية يتبعها وضع دستور جديد وإجراء انتخابات….الخ.

8ـ هذه العملية السياسة يقودها السوريون ويقرر الشعب السوري مستقبل سورية.

وجاء ذلك بعد إصرار طويل على استبعاد الرئيس الأسد، وفي هذا تراجع واضح وإقرار صريح بفشل أهداف المخطط الأمريكي في الحرب على سورية، ويترافق ذلك مع المحاولات الروسية الحثيثة لفرز المعارضة السورية وتحديد من منها مؤهل للمشاركة بهذه العملية السياسية.

لقد جاءت المؤازرة الروسية في الوقت المناسب دولياً وإقليمياً لتحول الحرب على سورية إلى حرب على الإرهاب، وبإجماع دولي لم تستطع الولايات المتحدة أمامه إلا أن تقر به، وقد تضطر للمشاركة فيه مستقبلاً لتحصد بعض نتائج انتصاراته السياسية، نتائج لم تشارك في صنعها، وباتت واضحة الآن في الأفق لقد أصبح فك الحصار عن حلب وتحرير إدلب وجسر الشغور احتمالات ممكنة في المستقبل القريب، كما أنها فتحت المأساة السورية على آفاق جديدة تبدو فيها التسوية السياسية (بعد دحر الإرهاب طبعاً) ممكنة، لا على مستوى سورية فحسب وإنما على مستوى المنطقة، فقد تفتح الآفاق على تسويات إقليمية في العراق ولبنان، بل في فلسطين واليمن أيضاً، حيث تعاني المجموعات الإرهابية وحلفاء الولايات المتحدة تراجعاً مستمراً وفشلاً سياسياً وعسكرياً، وقد يكون الإصرار على وقف إطلاق النار وإنهاء الحرب الذي ورد في بيان فيينا في الفقرتين 4 و 9 هو ضرورة بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية لوقف التدهور الحاصل لحلفائها وإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

لن تهدأ الإمبريالية العالمية في محاولة الالتفاف على تطلعات الشعب السوري وشعوب المنطقة في التحرر والسيادة، لكن تعميق التعاون بين جيشنا العربي السوري الصامد وحلفائه سيكون الضمانة لإفشال مخططات الإمبريالية وعملائها، إذ لولا صمود هذا الجيش الباسل على مدى خمس سنوات لما كان لدعم هؤلاء الحلفاء الشرفاء أي معنى.

العدد 1102 - 03/4/2024