لاجئون أم مهاجرون… حلب مثالاً؟!

لعل كلمة (مهجّرين) أكثر انطباقاً على حال معظم السوريين الذين اضطرتهم ظروف المأساة السورة الدامية إلى ترك منازلهم إلى أحياء أخرى، أو ترك مدنهم إلى مدن أخرى داخل الوطن، أو ترك وطنهم إلى دول الجوار، أو الهجرة إلى دول أكثر بعداً وأماناً في أوربا.

ودوافع الهجرة مختلفة، تبدأ بطلب الأمان بعيداً عن أهوال الحرب خاصةً من فقدوا بيوتهم، إلى طلب الرزق الذي بات شاقاً غير متاح في كثير من الأحيان، إلى الهرب من التجنيد في وقت اشتدت فيه حاجة الوطن إلى أبنائه للدفاع عنه ضد هؤلاء التكفيريين الإرهابيين، وأخيراً هناك من هاجر ليتجنب ظروف الحرب القاسية فهو لا يريد أن يعاني الحرمان من الماء والكهرباء وما تؤمنه من وسائل رفاه اعتادها ولا يريد التخلي عنها مع أنه لم يضطر لترك بيته شأن معظم المهاجرين المهجّرين.

في حلب بدأت الهجرة الداخلية عندما احتل الإرهابيون حلب القديمة بعد أن أمطروها بالقذائف، وكم من حلبيين تركوا بيوتهم على عجل حاملين فقط ما خف حمله وغلا ثمنه، والوثائق الهامة، إن استطاعوا، وفروا إلى أماكن (النظام) في حلب الغربية.

افترشوا بادئ الأمر الحدائق والجوامع حتى تم إيواؤهم في المدارس أو في بيوت غير مكتملة البناء في أطراف المدينة أو في المدينة الجامعية، والمقتدر منهم استأجر أقرب منزل أتيح له، فغلت الإيجارات ووسائل العيش نتيجة زيادة عدد السكان في مساحة محدودة ونتيجة الحصار الذي فُرض على حلب آنذاك، قسم منهم سافر إلى مدن الساحل للبحث عن فرص عمل، والحلبي حرفي ممتاز وشغيل صبور يستطيع أن يجد فرص أينما حل.

طال الحصار، ومع ارتفاع تكاليف الحياة وشح المياه وقلة الكهرباء ووسائل التدفئة من غاز ومازوت زادت صعوباتها وبدأت الهجرة إلى تركيا التي بدت مغرية مع التسهيلات التي قدمتها حكومة أردوغان بذريعة المساعدة الإنسانية، والحقيقة أن ذلك كان جزءاً من مخطط مدروس لتهجير أكبر عدد من السوريين خاصةً من الشمال السوري ـ فالذي ينخزه ضميره الإنساني على السوريين لا يدعم ولا يدرب ولا يمول العصابات التي تهدر دمهم وتدمر بيوتهم ـ ترافق ذلك مع الأعمال الوحشية التي ارتكبتها العصابات التكفيرية في المناطق التي دخلتها من قطع رؤوس وذبح وتشويه جثث ما يؤكد أن وراء تهجير السوريين مخطط متفق عليه.

لكن مع تأرجح مستقبل أردوغان السياسي وحزبه في الانتخابات الأخيرة بدا مستقبل السوريين في تركيا مهدداً وغير واضح، وبدأت تزداد الهجرة من تركيا إلى أوربا، ومع تزايد قصف المسلحين للأحياء السكنية في حلب أخذ مزيد من أبنائها يركبون المخاطر للنجاة بأرواحهم إلى بلاد أكثر أمناً، وكانت أوربا هي المتاحة.

مئات من المهربين قاموا بتهجير آلاف بل عشرات الآلاف من السوريين إلى هناك، هل كان ذلك دون علم المخابرات التركية؟ أشك في ذلك! بل الأرجح أنه تم بمعرفتها وتشجيعها، فأعداد السوريين المتزايدة في تركيا تركت آثارها في المجتمع التركي من غلاء وبطالة ومشاكل اجتماعية.

كان هذا بشأن السوريين أما الفلسطينيون فإن إجماع العصابات التكفيرية المتقاتلة والمتناحرة على حصار مخيم النيرب في حلب حصاراً جائراً دام أكثر من ستة أشهر أكل فيه الفلسطينيون خشاش الأرض! يدل على أن هناك مخططاً لتهجير الفلسطينيين أيضاً، ومما يؤكد ذلك تيسير استقبالهم منذ فترة مبكرة من المأساة السورية في بلاد الغرب الأوربي، وما يؤكد ذلك أيضاً أحداث مخيم اليرموك الدامية في دمشق ومؤخراً أحداث مخيم عين الحلوة في لبنان، كل ذلك يشير إلى استهداف الفلسطينيين بالتهجير كجزء من تصفية القضية الفلسطينية خاصةً حق العودة.

كما أننا في هذا السياق نشير إلى قصف حي السليمانية في حلب، ذي الأكثرية المسيحية، بالصواريخ والذي أحدث خراباً كبيراً في الحي وعشرات الشهداء ما يدل على استهداف المسيحيين أيضاً ودفعهم إلى الهجرة، وفعلاً هذا ما حدث.

كل شرائح المجتمع السوري مستهدفة، بكل دياناته وطوائفه وطبقاته وقومياته، وهذا المخطط يذكرنا بتهجير الفلسطينيين عام 48 عندما قامت عصابات الهاغانا الصهيونية بارتكاب مجازر بحق الفلسطينيين لتهجيرهم من بلادهم، مما يؤكد أن عصابات التكفير في سورية اليوم هي امتداد للعصابات الصهيونية في فلسطين عام 48 لها الأهداف نفسها وتستخدم الوسائل نفسها.

كل ما سبق يؤكد أن الحرب على سورية ليس هدفها إسقاط النظام فقط! بل تدمير الدولة السورية وتهديم بناها التحتية وتمزيق نسيجها الاجتماعي فماذا يمكن أن يفعل السوريون أمام هذا المخطط؟!

هل يكفي أن نقول للشعب السوري البائس الذي ذرف الدم والدموع خلال هذه الحرب القذرة الظالمة : اصبر! تحمّل! ولا تهاجر!! أم يجب السعي قدر الإمكان لتخفيف أعبائه لمساعدته على التمسك بالأرض وبالوطن!

سورية تفقد زهرة شبابها وخيرة حرفييها وعمالها وصناعييها في مختلف المجالات، فمن سيعمر سورية إن انجلت هذه الغمة وتخلصنا من الإرهاب والإرهابيين! من سيعيل مئات الآلاف من الأرامل واليتامى؟ من سيستصلح ما بار من أراضيها وتلوث؟ من سيعيد زرع ما احترق من غاباتها؟ من سيعيد بناء مصانعها المهدمة والمسروقة؟

لقد تدخلت أعتى الأنظمة الرأسمالية في العالم أثناء الحروب، فوجهت الاقتصاد وساعدت شعوبها على تجاوز ويلات الحرب، فهذا ليس له علاقة بالتوجه الاقتصادي للحكومة ليبرالياً كان أم اشتراكياً، بل علاقته بإستراتيجية المواجهة لمآسي الحرب والتخفيف قدر الإمكان من كوارثها الاجتماعية بما يخدم الدولة المعنية مؤسسات وشعباً ويضمن مستقبلها.

فيا حكومتنا الرشيدة.. ويا مسؤولينا الكرام، هل عليكم أن تساهموا في المخطط المرسوم لسورية بإهمال شعبها والاستهانة بمتطلبات عيشه الضرورية، أم أن تواجهوا معه المخطط الصهيوني بالسعي الحثيث لتخفيف آثار المأساة على السوريين البائسين؟ أتكونون مع الإمبريالية والصهيونية ضده! أم معه ضدهما؟!

ألم يكن بالإمكان في حلب مثلاً أخذ الاحتياطات الضرورية الممكنة قبل استحكام أزمة المياه المتوقعة قبل الأزمة بعام؟ ألم يكن بالإمكان تجنب شح المازوت بتخزين احتياطي كاف قبل شهور البرد القارس الذي عاشته المدينة الشتاء قبل الماضي؟ ألم يكن بالإمكان ضبط عناصر الحواجز المرتشية المتفلتة من كل المشاعر الإنسانية والوطنية والتي تقهر المواطن وتبتزه بوسائل مختلفة؟!

في حلب سُرق مؤخراً ثلاثة معامل من المنطقة الصناعية عادت إلى العمل منذ فترة، وقد تحدث عنها الإعلام الرسمي، نعم، هكذا في وضح النهار رغم وجود حواجز اللجان التي يفترض أن تحمي المدينة الصناعية! ولم يتم تحريك ساكن من جانب مسؤولي المدينة حتى الآن! والمعامل تعني إنتاجاً وتعني تشغيل أيدي عاملة، وتعني دخلاً لبعض هؤلاء العاطلين عن العمل هم في أمسّ الحاجة إليه، فهل هكذا نخفف الحمل عن السوريين؟!

قيمة سورية بتاريخها وشعبها، ذلك التاريخ العريق وذاك الشعب الحي الذي تراكمت في وجدانه الخبرات التاريخية والحضارية وجعلته مميزاً أينما حل، وهاهم يدمرون تاريخها، ويهجّرون شعبها، فما قيمة سورية بلا شعبها، بل ما قيمتكم أنتم أيها المسؤولون الكرام إن بقيت لكم سورية بلا شعب؟!

هل نحن محقون بمطالبنا هذه ونطلبها من الجهة الصحيحة أم؟!

العدد 1102 - 03/4/2024