حلب.. المدينة التي لا تموت

يندر أن نجد مدينة تعرضت لكل تلك الموجات من الحروب واستمرت حيةً قوية متفتحة، بينما تجد العديد من أمثالها قد طواها النسيان بعد تدميرها مثل: بابل ونينوى وماري وإيبلا وآشور وغيرها.

أول تخريب لمدينة حلب جرى في منتصف القرن الثالث ق.م وكانت مدينة مزدهرة ومركزاً اقتصادياً هاماً، فقد استولى عليها (ريموش) الأكادي وخربها وأسر ملكها، ثم نهضت حلب من تحت الأنقاض لتعود مملكةً مزدهرة في أوائل الألف الثاني ق.م، وأصبحت عاصمة مملكة (يحماض) العمورية وكانت على علاقة وثيقة مع الممالك العمورية الأخرى في حوض الفرات: ماري ـ كريمش (جرابلس) ـ بابل ـ آشور، وكان ميناء إيمار (مسكنة) على الفرات هو الميناء النهري الهام لمدينة حلب في تجارتها الممتدة عبر النهر حتى الخليج العربي عبر المدن العمورية.

جاء التدمير الثاني لحلب على يد الحثيين القادمين من الشمال والذين أزالوا مملكة يحماض من الوجود، وعادت حلب إلى الحياة من جديد وتصبح مركزاً حثياً دينياً واقتصادياً هاماً، وفي منتصف الألف الثاني ق.م وتحديداً في عام 1473ق.م احتلها الملك المصري تحوتمس الثالث فرعون مصر ثم استعادها الحثيون، ثم عادت فأصبحت جزءاً من الممالك الآرامية التي عمت حوض الفرات في بداية الألف الأول ق.م.

ثم تدمر حلب من جديد عام 853ق.م على يد سلمنصّر الآشوري، ثم دخلها الكلدانيون عام 612ق.م ثم الفرس ثم الإغريق، إذ دخلها الاسكندر المقدوني عام 323ق.م.

بلغت حلب ذروة عظمتها السياسية والفكرية أيام سيف الدولة الحمداني الذي اجتمع في بلاطه الأدباء والشعراء مالم يجتمع في بلاط أي خليفة في بغداد أو دمشق أو قرطبة.

تعرضت حلب للتدمير خلال حروب سيف الدولة مع البيزنطيين، حينما تمكن نقفور فوكاس ملكهم أن يحتلها ويخربها تماماً عام 629م ويقتل ويهجر أكثر سكانها ويستبيحها ثمانية أيام، وكعادتها تقوم حلب من تحت الركام وتستأنف دورة الحياة لتتألق من جديد أيام الأيوبيين عمرانياً واقتصادياً وتبلغ ذروة أناقتها المعمارية على يد الظاهر غازي بن صلاح الدين الذي أعاد ترميم القلعة وجدد أبواب المدينة وبنى عدداً من المدارس والمساجد مازالت باقية حتى احتل التكفيريون شرق المدينة ولا نعلم اليوم ما تهدم منها وما بقي.

ويتميز عهد الظاهر غازي بالتبادل التجاري مع أوربا رغم الحروب الصليبية، إذ عقدت أول اتفاقية تجارية مع دولة البندقية وهي أول اتفاقية بين أوربا والشرق في التاريخ، وبدأ يومذاك بناء أسواق حلب الشهيرة التي أصبحت أطول أسواق في العالم.

ثم أتى التدمير الهائل على يد هولاكو عام 1260م، ثم الدمار على يد تيمورلنك عام 1410م، ورغم ذلك عادت حلب إلى بهائها بعد ذلك.

أذكر الآن أسواق حلب القديمة بشجن حزين ـ فقد هدم معظمها الإرهابيون الآن ـ وما كنت أزورها إلا لماماً باحثاً عن حاجةِ لي لم أجدها في غيرها، أذكر يوماً أني قصدت سوق العطارين أبحث عن دواء لثعلبةٍ تسللت إلى رأس ابني قاصداً عطاراً بعينه دلوني عليه، بعد أن يئست من دواء طبيبه خريج المعهد الملكي البريطاني الذي لم يعط نتيجة مرضية، عبرت سوق الحبال الضيق أتعثر ببلاطه الحجري الأسود سيئ الرصف كأسنان رجل عجوز، ثم دلفت من نهايته إلى سوق العطارين لتستقبلـَني رائحته المميزة: خليط من روائح الحناء والبخور والزعتر البري امتزجت معاً لتؤلف أريجاً غامضاً فتح لي صفحاتٍ غابرةٍ من التاريخ وذكّرني بطريق الحرير وقوافل التجارة، وأنا أبحث عن علامة ذلك العطار المتواري منذ أزمان في السوق العتيق. تابعتُ سيري ببطء بين الدكاكين المتقابلة التي تدلت أمامها الأضواء الكهربائية وامتدت أمامها سلال الزعتر والجوز واللوز والحنة والبهارات والعسل، وقد رصت متجاورة بتلك الفوضى المنظمة التي تُميز أسواق الشرق العجيبة.

ضجيج هادئ غمر السوق، مشترون متلكئون أمام الدكاكين، باعة منهمكون، عابرون مسرعون، وفي خضم هذا الصخب الرتيب، تناهى لسمعي نوحٌ خافتٌ لناي حزين اختلط بأصوات السوق كروح رقيقة، ولوَّن الفضاء تحت السقوف المقببة العالية بنغمة شجية، ظننته بادئ الأمر من إحدى المحطات الإذاعية، لكن تلونَ اللحن استرعى انتباهي، وأوحى لي بأن الصوت لم يكن مصدرُه كما توهمت، أنْصتُّ.. بحثتْ عيوني في الزوايا والأرجاء، حتى أبصرتـُه متربعاً على الأرض جوار إحدى السلال.. عجوزاً رثاً مغضن الوجه كأرض عطشى يمر به العابرون دون أن يلتفت إليه أحد، بسط إلى جانبه قطعة قماش صُفتْ عليها مجموعة نايات قصب، كان يعزف على أحدها مغمض العينين غافلاً عما حوله كأنه في عالم آخر، وقد لفتْ أصابعه النايَ كأغصان زيتونة عتيقة اشتبكت بها لفافة رق قديم.

وقفت على مقربةٍ أتأمله خلسة، شجن رقيق أنَّ كموال عاشق مشتاق وانساب كقصيدة صوفية تناجي الوجود، وغمر الركن الذي تكوم فيه كيانه الضئيل المتهالك، تهادت روحي في أروقة التاريخ تشم عبق القرون، وتلمستْ امتدادات الماضي كعروق الذهب في تلافيف النفوس، فجأة، توقف اللحن المترقرق، فاستدرت لأجد عينين متسائلتين مطمورتين بسبع عقود ونيف من السنين.. ترمقاني، فاقتربت منه وقد ساءني هذا الفن المغموس في البؤس، سألته أريد المساعدة:

ـ كم ثمن الناي يا عم؟..

أطلّت الحيرة من تلك العينين الذابلتين! ثم أشار للجهة المقابلة، التفتُّ.. أبحث في الاتجاه الذي أشار إليه لأجد رجلاً بكرش كبير قد تربع على دِكةٍ غاصت في صدر الدكان الذي يواجهه يدخن نرجيلة، بدا في قنبازه الطويل وعرقيته البيضاء التي التصقت بقحف رأسه.. كشخصية هربت من صفحات تاريخ قديم وجلست متصالحة مع القرون التي طويت غيرَ عابئةٍ بمستجدات الزمن الذي مر. لف دخان النارجيلة الأزرق ملامحه وبدا منسجماً مع ألحان الناي الشجية التي كان يستمع إليها، نفخ دخان نارجيلته في الفراغ فوقه ونظر إلينا بابتسامة ثعلبية، سألته وأنا أشير إلى النايات:

ـ أهي لك؟

هز رأسه بهدوء.

ـ وماذا ينال هو؟ سألته مستنكراً

ـ هو درويشٌ على باب الله!..

درويش!!.. يا لهذا الشرق التعس!.. كيف يرمي درره على قارعة الطريق! كيف يهدر كنوزه التي ورثها من تراثه العريق! كيف حول حكمته المتناغمة مع الوجود والتي أنتجت هذا الفن الرفيع إلى طرب كسول! كيف يحوِّل نفحات الروح التي اختـُزنت في تلك الألحان الرائعة إلى سلطنة ودخان!

لخصت هذه اللوحة المؤلفة من عازفٍ ونايٍ وتاجر، المدينة، هذه حلب.. فنان بائس، وحرفي متقِن، وتاجر داهية، امتزجت جميعاً لتؤلف روح حلب، هذه المدينة العجيبة التي لا تموت، ستعود حلب إلى بهائها وستبقى روحها امتزاج بؤس الفنان، وإتقان الحرفي، ودهاء التاجر.

العدد 1102 - 03/4/2024