«التنوع في إطار الوحدة».. ترفٌ أم ضرورة؟ (1-2)
يتوق الإنسان دوماً إلى الارتقاء والتطور، ويكون هذا التوق أشدّ وضوحاً لدى الشيوعيين وأترابهم من القوى السياسية التي تناضل وتسعى للارتقاء بالمجتمع، وبناء مجتمع إنساني خالٍ من الظلم والاستغلال، ذلك لأن الماركسية أساساً هي فلسفة في الحرية الإنسانية، هدفها منع استغلال الإنسان ومنع تشييئه واغترابه.
وقد مضى اليوم نحو ربع قرن على إقرار مبدأ (التنوع في إطار الوحدة) أساساً في رؤية الحزب الشيوعي السوري الموحد لـ (المركزية الديمقراطية) التي تنظم الحياة الداخلية في الحزب، وتحدد العلاقات فيما بين أعضائه وهيئاته، وأورد ذلك نصاً في النظام الداخلي الذي أقره المؤتمر السابع الموحد (1991)، فهل كان إدخال هذا النص في النظام الداخلي للحزب ترفاً فكرياً، أم ضرورة اقتضتها التطورات المتسارعة والتجربة الملموسة؟ وهل حققت ممارسة هذا المبدأ في الحياة الحزبية سلوكاً متقدماً وإيجابيات؟
70 عاماً من (الديسبلين)!
ظل الحزب الشيوعي السوري، منذ تأسيسه عام 1924 يعتمد ما اصصطلح على تسميته بـ (الديسبلين) ـ الانضباط الحزبي، الذي يلخص جوهر الحياة الحزبية الذي استقر في حياة الأحزاب الشيوعية عموماً منذ بدأ الإعداد للثورة الاشتراكية، واتخذ محتواه الملموس بعد ثورة أكتوبر (1917)، وتعزَّز أكثر في الحقبة الستالينية.
المؤتمر الثالث (1969)
يذكر الشيوعيون السوريون، ويعرف الكثيرون من متابعي الحياة السياسية والحزبية في سورية، أن عقد المؤتمر الثالث للحزب الشيوعي السوري كان بحد ذاته إنجازاً، وأن من أبرز نتائج ذلك المؤتمر إقرار نظام داخلي.. أما البرنامج فظل خاضعاً للنقاش، إلى أن عقد المجلس الوطني للحزب (1971) فماذا كان أبرز ما ورد في ذلك النظام؟
لعل أبرز ما تضمنه النظام الداخلي (1969) نجده في مادته السابعة، التي تحدد رؤية الحزب التنظيمية، وهي تبدأ هكذا:
(الحزب الشيوعي هو الشكل الأعلى للتنظيم المدعو لقيادة جميع المنظمات الأخرى، وهو الذي يقود عمل كل شيوعي، أية كانت المنظمة الجماهيرية، أو الحركة أو المؤسسة التي ينتمي إليها)، ويحدد الحزب مرجعيته بـ (مبادئ الماركسية اللينينة في التنظيم)، إذ يتابع: (وكي يتمكن الحزب من القيام بمهماته ينبغي أن يكون منظماً وفقاً لمبادئ المركزية الديمقراطية، بأن تكون هيئاته الداخلية قائمة على مبادئ الماركسية اللينية في التنظيم، وهذا يعني:
1ـ وجود مركز واحد يقود الحزب على نطاق البلاد.
2ـ تأليف هيئات الحزب من أبسطها حتى أعلاها عن طريق الانتخاب.
3ـ على كل هيئة حزبية أن تقدم تقارير دورية عن نشاطها أمام منظماتها وأمام الهيئة الأعلى منها مباشرة.
4ـ على الهيئات القيادية، بمختلف الدرجات، أن تستمع دائماً إلى آراء منظمات القاعدة وإلى أعضاء الحزب، وأن تدرس تجاربهم وتعمل في الوقت المناسب على حل قضاياهم.
5ـ على هيئات الحزب بمختلف الدرجات أن تطبق مبدأ القيادة الجماعية التي لا تنفي المسؤولية الفردية. إن جميع القضايا الهامة ينبغي أن تعالج وتحل بصورة جماعية مع إفساح المجال أمام كل عضو لكي يظهر مبادرته ويقوم بالدور الذي يعهد إليه، إن تقديس الفرد يتعارض مع مبدأ القيادة الجماعية.
6ـ إن نظام الطاعة الحزبية يسري على جميع أعضاء الحزب دون استثناء، وقرارات الهيئات العليا في الحزب إلزامية لجميع منظمات الحزب وأعضائه، وأعضاء الحزب يخضعون لهيئاتهم الحزبية، وتخضع الأقلية للأكثرية، وتخضع كل هيئة حزبية للهيئة الأعلى منها، وتخضع جميع منظمات الحزب، على مستوى واحد، للجنة المركزية ومؤتمر الحزب).
يلخص هذا البند السادس حياة الحزب الداخلية، والعلاقات بين أعضائه وهيئاته، وهو يشبه المبدأ الذي يحكم الحياة العسكرية: (نفّذ، ثم اعترض)!
وما دام القرار يصدر من (الأعلى)، فإن على (الأدنى) أن (ينفذ) فقط، ولا يبقى للاعتراض بعد التنفيذ ـ غالباً ـ قيمة فعلية، وإلا فإن المعترض سيجد نفسه في موقع (الشبهة)، ويعرّض نفسه للعقوبات، التي تدرجت وفق النظام الداخلي من التنبيه إلى الفصل أو الطرد، وإذا كان الأمر يتعلق بمنظمة، فإن العقوبات يمكن أن تصل إلى حل الهيئة أو المنظمة، وفتح انتسابات جديدة!
الطاعة أولاً.. الطاعة أخيراً
الدليل الأبرز على أن (نظام الطاعة) هذا هو جوهر الحياة الحزبية، نجده في النظام الداخلي نفسه، فالمادة 38 تحدد مهمة لجنة المراقبة على الشكل التالي: (لجنة المراقبة مسؤولة عن:
1ـ مراقبة احترام نظام الطاعة في الحزب، من قبل هيئاته وأعضائه، ومراقبة فرض العقوبات على الذين يخرقون برنامج الحزب ونظامه الداخلي، ويسلكون سلوكاً منافياً للخلق الشيوعي من شأنه إلحاق الضرر بالحزب).
هذه هي إذاً المهمة الأساسية للجنة المراقبة، ويرد بعد ذلك مهام أخرى.
واختتمت المادة 38 بأنه (يحق للجنة المركزية تسمية لجنة مراقبة في ظروف استثنائية معينة، ولا يجوز ترشيح أو ضم عضو إلى لجنة المراقبة قبل مضي عشرة أعوام على الأقل على انتسابه للحزب).
أساس الكوارث!
يرى كثيرون أن هذه المهام وهذه الرؤية كانت سائدة، لا في الحزب الشيوعي السوري وحده، بل كانت سائدة أيضاً وأساساً في الحزب الشيوعي السوفييتي وفي كل الأحزاب الشيوعية التي نشأت على اساس هذه الرؤية، ويرون أيضاً أنها كانت أحد أبرز الأسباب التي فاقمت الاغتراب في الحزب نفسه، وفاقمت اغتراب (أبناء المجتمع الاشتراكي) عن قياداتهم وسلطاتهم، وأن ذلك، مع غيره من أسباب اقتصادية وسياسية وعسكرية، أوصلت الاتحاد السوفييتي إلى الانهيار (1991)، الذي شمل قبل ذلك وبعده ما كان يسمى (منظومة الدول الاشتراكية).
أما في الحزب الشيوعي السوري، فقد أنتجت هذه الرؤية، وما تبعها من تطورات، منها قيام تحالف جبهوي (1972)، أنتجت على مدى عقدي السبعينيات والثمانينيات انشقاقات متوالية في الحزب، أخذت غالباً طابعاً عمودياً.
الانعطاف نحو الواقع
استغرق الإعداد للمؤتمر السابع الموحد (1991) حوارات على مدى سنوات، تكثفت مع تسارع الأحداث في المنطقة والعالم، ومنها حربا الخليج الأولى والثانية، وانهيار جدار برلين، وتفكك الاتحاد السوفييتي.
وتوصل مندوبو المؤتمر السابع الموحد، بعد حوارات معمقة، وصراعات وتباينات، إلى نظام داخلي شكّل نقلة نوعية في حياة الحزب الداخلية، وفي علاقاته أيضاً.
وكان لهذه النقلة النوعية أساسها النظري في الماركسية اللينينية نفسها، واستفادت كذلك من دروس سبعين عاماً من العمل السياسي في بلادنا والعالم.