«التنوع في إطار الوحدة» ترفٌ أم ضرورة؟! (2 من 2)

لم يكن سهلاً الوصول إلى الصياغة التي استقر عليها النظام الداخلي للحزب، في المؤتمر السابع الموحد (1991)، فقد نوقشت، قبل المؤتمر وأثناءه، كل عبارة فيه، وكل كلمة، وتذرع البعض، في النقاش، بمقولات ومبادئ لينينية في التنظيم، راسخة على مدى عقود، ورد آخرون بمقولة ماركس (النظرية رمادية، لكن شجرة الحياة خضراء)!. وبرزت تباينات غير قليلة بين محافظين ومجددين، رأى البعض أن تستمر العلاقات فيما بين الهيئات وضمنها، حسبما كان سائداً، ورأى غيرهم ضرورة أن يعزز الحزب حضوره العلني، إذ ليس لديه ولا في سياسته ما يخشى إعلانه.

المركزية الديمقراطية.. رؤية جديدة

كان الطرفان، في الواقع، يخوضان تمريناً عملياً على ممارسة الديمقراطية داخل الحزب، سواء أدرك كل منهما ذلك وأراده، أم لم يدركه ولم يُرده. وتعززت هذه الممارسة تدريجياً في منظمات الحزب، وفي مؤتمراته اللاحقة، على مدى ربع قرن، وجرى إدخال تعديلات طفيفة أو جزئية، على بعض النصوص في النظام الداخلي، غير أن جوهر رؤية الحزب التنظيمية ظل ذا طابع ديمقراطي. ففي النظام الداخلي الذي أقره المؤتمر الحادي عشر للحزب الشيوعي السوري الموحد (آذار 2011)، حددت المادة الأولى منه مبادئ التنظيم كما يلي:

(يعتمد الحزب في تنظيمه مبدأ المركزية الديمقراطية، وفق الأحكام الأساسية التالية:

1ـ1ـ وجود مركز واحد يقود عمل الحزب وينسق مختلف نشاطاته، ويوجه عمل منظماته الجماهيرية.

1ـ 2ـ تشكيل هيئات الحزب القيادية ومكاتبها واختيار أمنائها عن طريق الانتخاب.

1ـ3ـ ممارسة القيادة الجماعية في كل منظمة وهيئة، ورفض أساليب العمل الفردي، ويكون التعامل بين هيئة وهيئة.

1ـ 4ـ كل هيئة مسؤولة عن نشاطها أمام مؤتمر منظمتها، وأمام الهيئة الأعلى منها، وتقدم تقارير دورية.

1ـ5ـ وحدة الإرادة والعمل في كل الحزب، ونبذ التكتلات، وذلك عبر التقيد بالنظام الداخلي للحزب، وبسياسته العامة المقرة في مؤتمره واجتماعات لجنته المركزية.

1ـ6ـ القرار الذي يتخذ بالإجماع أو بالأكثرية ينفذه جميع أعضاء الهيئة التي اتخذته، ويحق للمخالف أو للأقلية بحث الموضوع مجدداً في هيئته، أو في هيئة أعلى، أو طرحه في مؤتمر المنظمة، ولا يجوز طرحه خارج هيئات الحزب.

1ـ7ـ حرية النقاش في كل ما يهم الحزب في اجتماعات الهيئات والمؤتمرات وأثناء تحضير وثائقه وأثناء المناقشات العامة، وإطلاع منظمات الحزب على مختلف الآراء من خلال مطبوعات الحزب.

1ـ8ـ التنوع في إطار الوحدة يصون حرية التفكير والاجتهاد والاحترام المتبادل للآراء، ويحفظ حق المخالف أو الأقلية في إيصال آرائهم إلى الحزب وفق الأسس الحزبية المقررة.

1ـ9ـ تنفيذ هيئات الحزب قرارات الهيئات الأعلى منها، ولها حق مناقشتها معها.

1ـ10ـ ممارسة النقد والنقد الذاتي في الهيئات والاجتماعات الحزبية.

1ـ 11ـ مراقبة تنفيذ القرارات.

1ـ12ـ توزيع المسؤوليات استناداً إلى السيماء السياسية والعملية والأخلاقية.

1ـ13ـ عند انتخاب هيئات الحزب، وخاصة اللجنة المركزية، تراعى ضرورة التجديد والتواصل في قوامها).

هذه البنود الثلاثة عشر تشكل رؤية متكاملة متطورة، تنظم جوانب العلاقات الحزبية، للأعضاء والهيئات، وتضع ضوابط تصون ممارسة الديمقراطية فيها، استناداً إلى خبرات العمل التنظيمي والسياسي ودروسها، ويشكل البند 1 -8 المذكور أعلاه جوهر هذه الرؤية الجديدة تنظيمياً، التي جاءت انعكاساً ملموساً أيضاً لتطور رؤية الحزب الفكرية والسياسية، فهي تعبر أولاً عن تخلي الحزب عن احتكاره المطلق للحقيقة، وعن مبدأ (ديكتاتورية البروليتاريا)، وتخليه كذلك عن (الطليعية)، وفي ذلك واقعية نظرية وسياسية، دفعت الحزب لترسيخ حضوره وثقافته وتجذره أكثر في أرضه ووطنه وشعبه، دون أن يتخلى عن الماركسية أساساً نظرياً، وخصوصاً منهجها الجدلي، وفكرها النقدي، ولكنه نظر إليها من غير تقديس، فهو (يسترشد بصورة خلاقة بالماركسية ـ اللينينية، وبمنهجها المادي الجدلي التاريخي، وبكل ما هو تقدمي في الفكر العربي والإنساني) ـ حسبما جاء في مقدمة النظام الداخلي نفسه.

دروس الحياة

تأثر الحزب الشيوعي السوري الموحد تأثراً غير قليل بانهيار الاتحاد السوفييتي (1991) وما تلاه، لكن الحزب لم يترنح وظل رافعاً رأسه، فليس في تاريخ نضاله الوطني والطبقي منذ تأسيسه (1924) ما يشينه، وتابع نضاله وعزز حضوره السياسي على نطاق البلاد، وعزز علاقاته عربياً ودولياً، وفق إمكاناته، وعمل على تكريس العلنية في حضوره ونشاطاته، رغم أن حالة الطوارئ ظلت سائدة (حتى نيسان 2011). وقد طرح الحزب في مؤتمراته ووثائقه برنامجاً ديمقراطياً للإصلاح السياسي، بصفته مدخلاً للنهوض بالاقتصاد والمجتمع، بدءاً من دستور ديمقراطي عصري، إلى قوانين حديثة للأحزاب والجمعيات والإعلام، وضمان استقلال القضاء، واحترام حقوق الإنسان وفق أرقى المعايير. وقدم الحزب ذلك كله من موقعه في إطار الجبهة الوطنية التقدمية.

جدل التنوع والوحدة

عبّر مبدأ (التنوع في إطار الوحدة) إذاً عن تطور وانفتاح في التفكير، واتساع في مدى الرؤية، واستفادة من دروس الحياة وتطوراتها، ومن دراسة الواقع والاستجابة لمتطلبات تطويره والارتقاء به. وراح الحزب يتقدم أكثر في ممارسة الديمقراطية، وترسخت على أساس ذلك المبدأ، في منظمات الحزب، وفي اللجنة المركزية ومكاتبها، أنماط وآليات عمل ذات طابع ديمقراطي.

لم تكن الأمور تسير دوماً بسلاسة، فالجديد لا يرسخ حضوره بيُسر، إلا أن الاتجاه الرئيس السائد في الحزب ومنظماته ظل عموماً يستند إلى هذا المبدأ، وإلى هذه الرؤية، وقد يكون مفيداً هنا أن نعرض ما جاء في النظام الداخلي ـ المادة 26 عن (لجنة الرقابة والتفتيش): (هي هيئة مركزية ينتخبها المؤتمر العام للحزب، مهمتها الرئيسة السهر على تعزيز ممارسة الديمقراطية في الحزب، من ناحية، والانضباط الحزبي من ناحية أخرى، كما تعمل على صيانة حقوق الهيئات والأعضاء، والحفاظ على وحدة الحزب التنظيمية والسياسية، وتعمل بالتنسيق مع اللجنة المركزية والمكتب السياسي).

على أساس تلك الرؤية، وما ورد من تفصيلات في النظام الداخلي، تراجعت في حياة الحزب الشيوعي السوري الموحد كثير من الممارسات التي كانت قبل 1990 شائعة في الحزب الشيوعي لدى التعامل مع ذوي الآراء المختلفة، ومن ذلك التهميش والإقصاء، والاتهام بالتحريف، وصولاً إلى الفصل من الحزب، وصار التنوع مقبولاً، في البداية على مضض، ثم صار أمراً طبيعياً، على نطاق الحزب كله.

إن ترسيخ (التنوع في إطار الوحدة) في النظام الداخلي للحزب الشيوعي السوري الموحد لم يكن، إذاً، ترفاً فكرياً، بل كان ضرورة فرضتها تطورات الحياة واستيعاب دروسها نظرياً وعملياً، وإنجازاً يستحق أن يصونه الشيوعيون اليوم وغداً.

العدد 1104 - 24/4/2024