الجذور التاريخية للإرهاب التكفيري… مأساة المعتزلة

بعد خلافة المتوكل العباسي عام 847 م غابت عن المكتبة العربية مصادر الفكر المعتزلي الأصلية، ومن العسير على الباحث أن يقتنع أن ذلك كان من مصادفات التاريخ، فقد حدثت في ظروف تختلف كثيراً عن تلك التي بدأ فيها التراث العربي الإسلامي كله يتعرض للتشتت والضياع والتي حدثت فيما بعد على يد المغول والتتار، فلماذا تعرض الفكر المعتزلي لهذه المحنة في مرحلة سابقة وبعيدة جداً عن المرحلة التي تعرض لها كل التراث الفكري العربي الإسلامي للفقد والضياع فيما بعد؟

إن القضاء على تراث المعتزلة على ضخامته وخصبه قد حال دون الاطلاع عليه من قبل الباحثين كاملاً متكاملاً غير مجزأ ومشتت ومتناثر في المصادر غير المعتزلية والتي أغلبها تناصبه العداء خاصةً الأشاعرة خصومه الألداء، لذلك لم يكن من سبيل لدراسة هذا التراث إلا من تلك المصادر التي قدمته أشلاء فقدت روح التكامل والتلاحم وتماسك البناء المنطقي.

ويبدو أن مأساة المعتزلة بتألب أعدائهم على طمس تراثهم الفكري هي أشد قسوة من الاضطهاد الجسدي الذي طالهم منذ عهد الخليفة المتوكل العباسي، ونذكر من التاريخ كيف قـُتل عبد الله ابن المقفع المعتزلي مؤلف كتاب كليلة ودمنة تلك القتلة الشنيعة وغيره كثير.

ولكن لماذا كان هذا العداء اللدود للمعتزلة رغم أنهم لم يمثلوا حركة سياسية تهدد الدولة كما الشيعة مثلاً! ولم يطرحوا في آرائهم (التي وصلتنا) دعوة صريحة إلى تمرد سياسي يشق عصا الطاعة على الولاة أو الخليفة! فهم فئة من المثقفين الذين كانوا يؤلفون جزء الفقهاء والمحدثين والمفسرين وكانوا في الوقت نفسه داخل معسكرات الأحزاب السياسية المختلفة لعصرهم، ولذلك كانت صلاتهم حية بالرأي العام في مجتمعاتهم وبمختلف طبقاته! وحظوا بتجاوب هذا الرأي العام مع أفكارهم وآرائهم.

إن الطابع العقلي التحرري الذي غلب على تفكيرهم هو الذي جمع مختلف الفرق والمذاهب الأخرى والفئات الاجتماعية المحافظة، لاسيما الفئات ذات الموقع الاجتماعي الأكثر ارتباطاً بمواقع أهل النظام الثيوقراطي لدولة الخلافة، ومن هذه الفئات أهل الحديث والفتاوى غالباً، ورغم أن مجمل الفكر المعتزلي لم يخرج عن إطار الإيديولوجية الإسلامية! لكنه تمسك بقضية العقل، وحرية إرادة الفعل لدى الإنسان، وكان ذلك هو ما دفع بالفكر المعتزلي أن يشق طريقه الخاص به والذي أدى إلى التفرد بنتائج جعلت منه، موضوعياً، بمثابة فتيلٍ يفجر التناقضات داخل إيديولوجيته نفسها، فالتزامهم بقضية العقل إلى حد يكاد يتخطى التزامهم ببعض الأصول المقررة في الإسلام، جعل من حكم العقل قاضياً يصرف نصوص القرآن عن معناها الظاهر عندما يكون هذا المعنى متعارضاً مع ما يقتضيه العقل، الذي أسموه تأويلاً، حتى أنهم جعلوا حرية اختيار الإنسان حاكمة على حرية إرادة الله ومقيدة لقدرته، وما ذاك إلا لأن مبدأ حرية الإنسان قائم عندهم على وجود العقل بالضرورة وعلى أن وجوده لا معنى له إن لم تكن له قدرة على الاختيار بالضرورة كذلك، وأنه لولا ذلك لسقطت مسؤولية الإنسان عن أفعاله، ولما كان العدل الإلهي عدلاً حقاً.

وتبين نظرية المعرفة عندهم أن للعقل مجالات تكاد لا تنتهي حدودها، ليس في عالم الطبيعة فحسب، بل في عالم ماوراء الطبيعة أيضاً، حتى أن معرفة الله ليست في متناول العقل فقط! بل هي أول واجباته الضرورية، حتى المعرفة الحسية تدخل في نطاق وظيفته من حيث كون المحسوسات من موضوعات المعرفة العقلية، ومن حيث كون العقل هو الذي يحول المدركات الحسية إلى مدركات عقلية.

كما تمسّك المعتزلة بمبدأ السببية في حدوث الأشياء والأفعال، حتى قضية خلق الله للعالم ربطوها بهذا المبدأ، وهم لا يفصلون بين مبدأ العلية في الطبيعة، وما يترتب على هذا المبدأ من مسؤولية في المستوى البشري والاجتماعي، دون أن يخضعوا أفعال الإنسان للحتمية الجبرية. وقد فرقوا بين العلية في أفعال الطبيعة والعلية في أفعال الإنسان بأن الأولى تخضع لقوانين ثابتة حتمية، أما الثانية فتخضع لعنصر الإرادة، وذلك انسجاماً مع مذهبهم في حرية اختيار الإنسان. وتتجلى القيمة التقدمية لتمسك المعتزلة بمبدأ السببية وللبحوث النظرية التي أوضحوا فيها هذا المبدأ، إذا قارنا موقفهم في هذه المسألة بالموقف الآخر المعارض الذي كان سائداً في عصرهم والذي كان الأشاعرة بالأخص من يحملون رايته منكرين مبدأ السببية إنكاراً مطلقاً وبناءً على هذا الإنكار استبعدوا العقل من مجال المعرفة، وارتبطت المعرفة عندهم ارتباطا كاملاً بالمصدر الإلهي.

لقد واجه المعتزلة تياراً فكرياً أسقط من الكون وجود القوانين الموضوعية التي تنتظم العلاقات بين الأشياء والأحداث، وأسقطوا بذلك إمكانية استقلال العقل بالمعرفة، لقد واجهوا جمهرة واسعة من أهل الرأي والنفوذ الديني وبينهم الأشاعرة ثم انضم إليهم فيما بعد فريق من أهل علم الكلام (اللاهوت) وأهل المذاهب الإسلامية من السنة والشيعة.

إن تمسك المعتزلة المتشدد الشجاع بالعقل في ذلك العصر قد ساعد في دفع الحركة الفكرية في عصرهم أشواطاً سريعة بعيدة نحو آفاق جديدة للنظر العقلي والفلسفي بحيث استطاع أن يؤدي مهمة التحضير لانطلاقة علمية مقبلة لأنه أفسح مجالات المعرفة بمختلف وجهاتها أمام العقل وأوجد القاعدة المعرفية الضرورية الوطيدة لتطور الحركة الفلسفية.

كان العداء للفكر المعتزلي إذاً عداءً لتلك النتائج التي توصل إليها بقدر ما كانت تحدثه من تصدعات في بنيته الإيديولوجية وامتدت موجة العداء هذه لتشمل العلوم والفلسفة وما كان ذلك إلا لأن العلوم التطبيقية والفلسفية تشتركان في استخدام تلك المبادئ.

لقد عرقلت مأساة المعتزلة المزدوجة الجسدية والفكرية تطور الحياة الفكرية في العالم العربي الإسلامي، بل أصاب الحركة العقلية بمضمونها العام بانتكاسة ظلت تعاني منها حتى بدايات عصرنا الحديث، ولولاها لكان من المفترض بحكم ظاهرات التقدم في القرن التاسع الميلادي أن تتجه الحركة العقلية والفلسفية اتجاهاً أكثر واقعيةً وأكثر ارتباطاً بنتائج تطور العلوم التطبيقية في ذلك العصر.

لقد طغت، منذ عهد المتوكل، موجة النزعة السلفية المحافظة إلى الحد الذي يصفه المؤرخ المسعودي فيقول:

(لما أفضت الخلافة للمتوكل، أمر بترك النظر في الجدال، والترك لما كان الناس عليه في أيام المأمون والمعتصم والواثق، وأمر الناس بالتسليم والتقليد، وأمر شيوخ المحدّثين بالتحديث وإظهار السنة والجماعة)، ويقول الكاتب أحمد أمين في هذا العرض:

(ومع أنه (المتوكل ) كان من أظلم الخلفاء، فقد مدحه أهل السنة واغتفروا له سوء فعاله لرفعه المحنة (أي محنة سيطرة الفكر المعتزلي)، ورأى له كثير من المحدثين رؤىً في المنام تذكر أن الله غفر له)!

ويتحدث السيوطي في الموضوع نفسه فيقول عن المتوكل أنه:

(.. استقدم المحدّثين إلى سامراء (عاصمة المتوكل) وأجزل عطاياهم، وأكرمهم، وأمرهم بأن يحدثوا بأحاديث الصفات والرؤية، (وهما المسألتان اللتان نفتهما المعتزلة)، وجلس أبو بكر بن أبي شيبة في جامع الرصافة فاجتمع إليه نحو ثلاثين ألف نفس وجلس أخوه في جامع المنصور فاجتمع إليه نحو ثلاثين ألف نفس، وتوفر دعاء الخلق (الناس) للمتوكل، وبالغوا في الثناء عليه والتعظيم)… (ثم أمر (أي المتوكل) نائب مصر أن يحلق لحية قاضي القضاة بمصر أبي بكر محمد بن أبي الليث (وهو معتزلي) وأن يضربه ويطوف به على حمار ففعل، وولى القضاء بدله الحارث بن مسكين من أصحاب مالك). أي من المذهب المالكي وهو أشد المذاهب الفقهية تمسكاً بالنزعة السلفية وأكثرها ارتباطاً بالحديث بتشدد بالغ، وألدها عداءً للنظر العقلي في العقيدة والشريعة.

إن الإرهاب الفكري والجسدي الذي تعرض له المعتزلة كان بداية الإرهاب الذي وصل إلى عصرنا الحالي ليأخذ أشكالاً مختلفة من التسميات ويرفع مختلف الشعارات المشترك بينها، هو رفض العقل وتكفير الآخر ورفضه، التي أدت إلى كل الجرائم التي تحدث اليوم باسم الدين، والتي وجدت من يحركها ويرعاها ويمدها ويحولها إلى أدوات تخرب البلاد وتقتل العباد في كل المنطقة، وتحاول تدمير أحلامنا بوطن حر وشعب سعيد.

 

المراجع:

ـ النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية – حسين مروة.

ـ ضحى الإسلام – أحمد أمين.

ـ تاريخ الخلفاء – السيوطي.

العدد 1104 - 24/4/2024