تصنيع المصير السياسي للمجتمعات المحلية ماذا يجري في الجزيرة السورية؟!

 الأخبار الواردة من عروسة الجزيرة السورية، القامشلي، تثير القلق، وتبعث الهواجس في الصدور، فالقامشلي التي ولدتُ ونشأت فيها، كانت في الخمسينيات (كما عشتها) مثالاً للمجتمع السوري المتقدم والمنفتح لكل جديد، وكانت تجمع أطياف الشعب السوري من عرب (عشائر عربية وقادمون من دير الزور والميادين وحلب وإدلب ودمشق وغيرها، إلى جانب السكان الأصليين من عرب سريان وكاثوليك وكلدان وآشوريين)، وكرد، وأرمن، وشيشان. في هذا المجتمع ولدت، ونمت حركات سياسية محتلفة، ولكن الأهم أن طابعها العام كان تقدمياً، فقد كانت التظاهرات التي تقوم في شوارع دمشق وحلب وغيرها من المدن السورية، تلقى صداها في شوارع القامشلي ضد الاحتلال، وضد حلف بغداد بالتحديد، وضد (فراغ إيزنهاور) وضد مشروع النقطة الرابعة، وضد رفع أسعار الكهرباء، إلى أن ضجت شوارع القامشلي بالدعوة إلى الوحدة السورية والمصرية التي بلغت أوجها في زيارة الرئيس عبد الناصر للقامشلي. وفي النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي كانت مقاهي القامشلي ومدارسها وشوارعها وبيوتها تشهد نقاشات سياسية (حادة أحياناً) بين الاتجاهات السياسية الرئيسية في ذلك الوقت.

– الاتجاهات العروبية التي يقف على رأسها حزب البعث العربي الاشتراكي وشخصيات وطنية وقومية مستقلة.

– التوجهات الأممية المتمثلة في الحزب الشيوعي السوري.

– التوجهات الإسلامية التي كان يرفع لواءها الإخوان المسلمون وبعض الطرق الصوفية والإسلاميون المستقلون.

– التوجهات الانعزالية التي تتمحور في الدعوة الكردية التي كان يرفع لواءها العديد من الأحزاب الكردية وعلى رأسها حزب (البارتي، التابع للبرازاني)، وبعض الكتل الكردية المستقلة.

– الدعوة القومية السورية التي كان يقودها الحزب السوري القومي الاجتماعي.

وكان المجتمع الأهلي ينشطر في أعمال ثقافية ورياضية تقوم بها جمعيات سريانية وكاتوليكية وأرمنية، في حين كان الإسلاميون يتخذون من الجوامع منابر لدعوتهم، إلى جانب الدعوات الصوفية والسلفية في القرى والأحياء، ورغم هذا التعدد، فقد كان يسود الجميع نوع من المجاملات والعلاقات العادية، فقد كان يجمعهم تقاليد المجتمعات الزراعية، فيفرحون ويحتفلون بنزول المطر، ويكتئبون في أوقات الجفاف، ولكن كان الجميع يعمل، ونتيجة لقلة اليد العاملة، كنا نرى الأدالبة في موسم قطاف القطن، والديريين والحوارنة لدى جمع محصول القمح والشعير وترحيله، وفي أسواق الهال والغذاء والمطاعم كان ينشط الحلبيون والديريون، في حين تنشط الأسواق بعمل أهالي المدن من دمشق وحلب، وخبرتهم، وخاصة في تجارة الحبوب وتوريد المنتجات الغذائية وغير الغذائية وفي مختلف الحرف.

وفي رحلة ما بعد الاستقلال وخاصة في الخمسينيات، عرفت الجزيرة الزراعية الحديثة واستخدمت الآليات الزراعية من جرارات وحصادات وملحقاتها، فكانت الزراعات الرأسمالية، حيث ظهرت علاقات زراعية مختلفة، فالأراضي شاسعة ومعطاءة، فكان هناك أشكال مختلفة من الاستثمار الزراعي، التي أظهرت الوجه الحقيقي للجزيرة التي كانت تدعى (كاليفورنيا الشرق) وأصبحت سورية تعتمد على إنتاجها الزراعي (النباتي والحيواني).

ليس هذا فحسب، فقد كانت هناك نهوضاً صناعياً على التوازي، تمثّل في عشرات الورشات الصناعية لتصليح الآليات الزراعية، والسيارات على أنواعها، وتطورت بعض الورشات إلى تصنيع بعض القطع التبديلية، وتوصلت إلى إنتاج أنواع مختلفة من ملحقات الآليات الزراعية، وأصبحت القامشلي مركزاً زراعياً وصناعياً يستقطب آلاف العمال والزراعيين والصناعيين، من مختلف أنحاء البلاد.

وكانت الطائرة تصل يومياً من دمشق، وتمر بعض رحلاتها من حلب، لتسهّل انتقال المواطنين، وهي تحمل في الوقت ذاته الجرائد اليومية الصادرة بدمشق لتوزع في اليوم نفسه في القامشلي، إضافة إلى ثلاث جرائد يومية تصدر في القامشلي إلى جانب مجلة شهرية، وكانت العلاقات الحضارية هي السائدة في المجتمع، وسط أجواء من الود والمجاملات غير المكتوبة، إنما أصبحت جزءاً من سلوك الإنسان العادي، ولم يكن يعكّر هذه الأجواء المريحة سوى مواسم الجفاف وبعض منشورات حزب( البارتي) الكردي، التي يصدرها في المناسبات، وربما تتزامن مع خريطة تبين حدود (الدولة الكردية) الموعودة التي تضم الشمال السوري، وبضمنه جنوب شرق تركيا وشمال العراق.

هذه الصورة الوردية للجزيرة السورية، وخاصة لمدينة القامشلي، اهتزّت بل تفجّرت، على وقع الأحداث المأساوية التي اجتاحت سورية فيما يدعى (الربيع العربي).

وأهل الجزيرة السوية يعرفون معنى الربيع ولطالما انتظروه وتوقعوه أخضر، فإذا به يأتي جافاً ودموياً، وسرعان ما تحول ربيع الجزيرة السورية الذي عاشته في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي إلى جحيم، نسأل عن القامشلي الآن كيف تعيش، فيأتيك الجواب كصفعة تهزّ كيانك: القامشلي الآن تتقاسمها ثلاث مجموعات، الأولى للحكومة تصل أطرافها بالمطار، والثانية وسطها تحكمها المجموعات (المسيحية) المسلحة، وثالثة يحكمها الأكراد، وإذا أردت الدخول إلى المدينة فعليك أن تثبت أنك تنتمي إليها، أو أن تأتي بكفيل يضمن إقامتك ومغادرتك، هذه هي القامشلي الممزقة، التي كانت تختصر الحياة السورية المشتركة، فإذا بها الآن تمثل حقيقة المأساة السورية ونتائجها، ويخيم عليها كابوس ما يدعى (الدولة الكردية) و(تحالف سورية الديمقراطي) الذي ضم إلى جانب الأكراد (رشّة) معنوية من ممثلين عن العشائر العربية والسريان والآشوريين والكلدان) حيث تتوضح معالم التقسيم الذي تريده الولايات المتحدة التي تزود الكرد بالمساعدات العسكرية، وتعمل الآن على صيانة مطار قديم بالقرب من رميلان (حقول النفط، والاحتياطات الهامة المكتشفة وغير المكتشفة)، وإصلاحه وتوسيعه، ليستوعب هبوط الطائرات الأمريكية العسكرية وإقلاعها، كما تقول بعض وكالات الأنباء، في حين يتم تجهيز مطار القامشلي ليستطيع خدمة الطائرات العسكرية الروسية، وفي الوقت الذي تؤكد فيه روسيا تمسكها بوحدة سورية، يلوّح الغرب بالتقسيم وتفتيت وحدة سورية.

وبعض كرد الجزيرة السورية (أو الفئات الناشطة منهم) استوعبوا (لعبة الأمم) ودرسوا جيداً تجربة الصهيونية في فلسطين، وقد أصبحوا يتقنون فنون التعامل مع المصالح الدولية، وها هم يستغلون الكارثة التي تصيب البلاد، ليضموا إليها أوهام قيام دولتهم الموعودة على جزء من الأراضي السورية، بدلاً من ضم جهودهم إلى باقي الجهود السورية- لبناء دولة ديمقراطية علمانية مدنية تجسد آمال الشعب السوري وطموحاته، بمختلف مكوناته، وبدلاً عن ما كان ينتظر من كرد سورية نرى بعضهم يستجيب لطروحات الخارج الهادفة إلى تقسيم سورية على أسس طائفية وإثنية ومذهبية، ذلك المخطط الذي يطل علينا بين حين وآخر، والذي تعود أصوله إلى بداية الاحتلال الفرنسي لسورية،

فكما هو معروف قامت فرنسا بتقسيم سورية إلى خمس دول في بداية الاحتلال، وقد تأخر دخولها إلى الجزيرة السورية إلى أواخر عام ،1926 وكان للجزيرة السورية موقع مختلف لدى المحتل، فقد أرادتها نموذجاً (لتضييع) المصير السياسي للمجتمعات المحلية، وهو الوصف الذي أعطته (نادين بيكو دو) في كتابها (عشر سنوات هزت الشرق الأوسط) (1) عن سياسة فرنسا في الجزيرة السورية بعد استكمال احتلالها، وقد ارتبطت هذه السياسة بالسياسات الإثنية الفرنسية المسبقة لإعمار الجزيرة، وذلك بتشكيل كيان استيطاني(كردي- كلدو- أشوري) يتبع فرنسا لمواجهة الحركة الوطنية في الداخل السوري، وكان من أولويات هذه السياسة القضاء على الحكم العربي وتجزئة سورية إلى دويلات وألوية مستقلة ذاتياً على أسس طائفية ومذهبية وإثنية ذات استقلال ذاتي، فكان أن أقامت دويلات حلب ودمشق والعلويين والدروز ولبنان الكبير ولواء إسكندرون، وإلى جانب هذه الدويلات والألوية كانت تريد قيام دولة بدوية عربية، وكيان كردي (يلي) في الجزيرتين العليا والوسطى السورية.

من خلال هذا المخطط تقدم الفرنسيون بمقترح إلى مؤتمر الصلح في باريس (18/1/1919) لقيام دولة تضم الكلدان والآشوريين في منطقتي غرب الموصل بين دجلة والعراق والجزيرة السورية تحت الانتداب الفرنسي، وقد تبنى الجنرال غورو عام 1920 إقامة تشكيل (لواء مستقل) في الجزيرة، وقام بتجنيد وحدات محلية (ملية) و(آشورية) متكلدنة وفق خطة بيليران- غورو، إضافة إلى وحدات بدوية عربية قاتلت مع القوات الفرنسية في المرحلة الأولى لعملية احتلال الجزيرة السورية.

وهنا تلتقي سياسة التجهيز التركية مع السياسة الفرنسية، فقد عمدت تركيا ضمن سياسة التتريك إلى تجهيز الفئات غير التركية من عرب (مسيحيين ومسلمين) وأرمن وأكراد من المناطق الجنوبية والجنوبية الشرقية لتركيا، وضمن الصفقات المعقودة بين تركيا وفرنسا- تخلّت فرنسا لتركيا عن إسكندرون السورية، ومنحتها المناطق السورية الواقعة جنوب تركيا (كيليكيا) ومنحتها أيضاً حق حماية الحدود السورية- التركية- ولذا نجد أن الجيش التركي هو الذي يملك حق حماية حدودها الجنوبية مع سورية- على أن يقتصر الوجود السوري على مخافر الشرطة، وذلك لتضمن تسهيل عملية التهجير والنزوح إلى شمال سورية، وخاصة الجزيرة السورية، ففي حين كانت الموجات الأولى للتهجير (1922-1924) تتجه نحو الداخل السوري، فإن الهجرات ما بين 1925-1939 اتجهت بوجه خاص نحو الجزيرة السورية، وذلك كله تحت عنوان السياسة الكمالية في العهد الجمهوري التركي، القائمة على التتريك والتهجير القسري وصولاً إلى حظر اللغة الكردية رسمياً عام ،1932 ومن خلال هذه السياسات جرت أكبر عملية تهجير نجم عنها ثلاث مشكلات هي: المشكلة الكردية- المشكلة الأرمنية- المشكلة الكلدو آشورية، هذه المشكلات التي أرادت منها تركيا التخلص من أهم بؤر النزاع الداخلي، ووجدت فيها فرنسا فرصة (تصنيع المصير السياسي للمجتمعات المحلية) بإقامة ذلك الكيان الكردي- الكلد آشوري، ليخدم اغراضها ومخططاتها في استعمار كامل الأراضي السورية، وفرض تقسيمها الذي يخدم في النهاية مصالحها من جهة- ويمنع قيام دولة سورية موحدة وقوية يمكن أن تهدد وجودها الاستعماري.

اليوم، وبعد ما حدث ويحدث على الأراضي السورية، والذي يهدف إلى تفجير المجتمع السوري، وتفتيت وحدته، والذي بدأ بإضعاف الدولة السورية وإشاعة أجواء الفوضى، التي أرادها المخطط الأمريكي خلاقة، وأرادها الإرهاب التكفيري (فوضى عارمة)، وبعد محاولة ضرب أسس الدولة السورية، باستدعاء الطائفية والمذهبية والعرقية، تُستهدف (المواطنية السورية) ، التي كانت من أسس قيام الدولة السورية والوطنية السورية، فإذا بها تصبح أداة الإرهاب التكفيري والمخطط الأمريكي (الغربي) بهدف استخدام ذلك وظيفياً من أجل تحقيق أهدافها المشتركة، والمطلوب الآن، ليس كشف ذلك وفضحه داخلياً وخارجياً، وإنما أيضاً مقاومته، ولا يكون ذلك إلا بالوحدة الوطنية، التي طالما كانت هي الملجأ الأخير الضامن لاستمرار الدولة، وكما سبق لأطياف الوطن السوري وفئاته أن فضحت وأفشلت مخططات الخمسينيات من القرن الماضي، والعدوان الإسرائيلي المتكرر، وكما وقفت جميع أطياف الجزيرة السورية ضد الحشود التركية على حدودها الشمالية في النصف الثاني من خمسينات القرن الماضي، فإنخرطت في المقاومة الشعبية، وقامت بحفر الخنادق على الحدود والتدرّب على السلاح، والتحمت مع مكونات شعب سورية في الداخل، فأجهضت المخططات التركية والإسرائيلية والغربية، كذلك فإن المطلوب الآن إحياء ذلك التلاحم، لمواجهة الخطر المزدوج، خطر الإرهاب وخطر التقسيم، وهي مسؤولية المجتمع، ولكن تقع على المواطنين السوريين من الكرد المسؤولية الأكبر، فعليهم رفض الدور الوظيفي الذي تريده لهم الولايات المتحدة (والغرب الأوربي وإسرائيل) وأن يلتحقوا بالمشروع الوطني السوري الهادف إلى إقامة دولة ديمقراطية مدنية علمانية، تقوم على العدل والمساواة وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فمكانهم هنا، ومنه يستطيعوا الإسهام في بناء دولة العدالة والمواطنة الحقة، فيبتعدون عن الأوهام وعن الأدوار الملتبسة ويعودون إلى حضن وطنهم ومجتمعهم.

وأنا في هذه الدعوة لا أنكر وجود (مشكلة كردية)، وإنما أريد أن أعزلها عن المخططات الخارجية، والمشكلة الكردية في سورية بسيطة وتحلّ داخل الدولة الديمقراطية، وعلى أي حال فإنه لم يكن لدى الكرد عبر التاريخ مشكلة في العيش المشترك مع أطياف المجتمع السوري، فهم موجودون منذ مئات السنين، ويشتركون في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية كباقي المكونات السورية- لكن المشكلة ظهرت منذ بدأت تركيا مع نهاية عمليات التهجير، بتسهيل تسلل الأكراد الأتراك عبر الحدود إلى مناطق الجزيرة السورية ومع إحصاء 1962 برزت المشكلة عندما تبين أن حوالي 80 ألف كردي تركي لم يشملهم الإحصاء، وقد كان هناك تقصير كبير من الحكومات بعد ذلك التاريخ لعدم معالجة هذه المشكلة وحلها في حينه، فكان ما كان من بروز هذه المشكلة التي من السهل معالجتها، وقد بدأت بمنح عدد كبير منهم مؤخراً الجنسية السورية، ومن الممكن الاستمرار في معالجتها وتلبية المطالب المحقة ضمن حل مشكلات المجتمع السوري بكامله في الدولة السورية، ومن خلال التحام الأطياف كافة في المعركة ضد الإرهاب والتقسيم، من أجل إقامة مجتمع العدل والتنمية والدولة القوية.

*******

(1) عشر سنوات هزت الشرق الأوسط- نادين بيكودو- ترجمة عبد الهادي عباس- دمشق- دار الأنصار- 1996 (ص15)

العدد 1102 - 03/4/2024